شمال العاصمة الكوبية هافانا وعلى شواطئ الكاريبي الخلابة تطل "هافانا القديمة" ذات الخمسة قرون مزهوة بعبق التاريخ تحكي لزوارها عن حاضرة عريقة تتنفس ثقافة بمعالمها الساحرة التي يعود أقدمها إلى القرن ال16. وتمثل "هابانا فييخا" -المصنفة ضمن تراث اليونسكو العالمي للإنسانية عام 1982- إحدى أبلغ الأمثلة عن المدن العريقة التي حافظت بشكل كبير على تناسقها العمراني ونسيجها الاجتماعي وروحها الثقافية نتيجة اهتمام الدولة المباشر وإشراكها للسكان في التنمية الاجتماعية والثقافية إذ تبدو للزائر كمتحف مفتوح تشع بساكنتها المبدعين ومعالمها الآسرة. وما يشد الزائر لهذه الحاضرة هندستها النيو-كلاسيكية والقوطية التي تذكر بفترة الاستعمار الإسباني فالمدينة تحوز العديد من المعالم العائدة لهذه الفترة على غرار "بلازا دي آرماس" (ساحة الحرب/ 1520) و"كاستيو دي لا ريال فويرزا" (قلعة القوة الملكية/ 1577) وكذا "حصن لاكابانيا" (1774) -الذي يحتضن سنويا "معرض هافانا الدولي للكتاب"- و"مشرب فلوريديتا" (1817) الذي كان "البار" المفضل للروائي الأمريكي أرنست همنغواي أثناء إقامته بهافانا من ثلاثينيات إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي. وإضافة إلى هذه الشواهد الأثرية يمكن للزائر أيضا التنزه بممشى "باسيو دل برادو" (ممشى برادو/ 1772) الذي يتجمع فيه الفنانون المحليون بكل أطيافهم للتواصل وكذا اكتشاف العديد من الأروقة والمتاحف الصغيرة على غرار "كازا آفريكا" (بيت إفريقيا) التي تحتضن دوريا معارض فنية من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء و"كازا آربه" (البيت العربي) التي تعكس ثراء التراث الثقافي القادم من البلدان العربية. وتضم كثير من هذه المتاحف أقساما دراسية للأطفال القادمين من مدارس تجري فيها عمليات ترميم حيث الهدف منها أيضا "غرس الحس الفني" لدى اطفال الاحياء الشعبية. وما يزيد هذه المدينة جمالا محلات بيع السيغار الكوبي المتناثرة هنا وهناك وسيارات "فورد" و"شيفروليه" القديمة التي تعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي والتي تنقل الزوار عبر مختلف أنحاء المدينة. ويقول إيفان هرنانديز هيدالغو (45 عاما) وهو فنان تشكيلي من هافانا القديمة أن مدينته "تتنفس ثقافة" إذ يتواجد بها "عدد كبير من التشكيليين (الذين) يعتاشون في أغلبهم من بيع أعمالهم لوجود سوق داخلي قوي تدعمه السياحة" مضيفا أن وضعية الفنان في كوبا "جيدة" -على حد قوله- و"الدولة تساعد هؤلاء التشكيليين من خلال احتضان أعمالهم وعرضها في المؤسسات الثقافية وكذا دعم الراغبين في فتح أروقة فنية". ويرى هذا الفنان -الذي يرسم ب "حبر السيغار الكوبي" (ممزوج لمستخلص نبتي ورماد السيغار) ويشارك بأعماله دوريا في معارض بالولايات المتحدةالأمريكية وأوروبا- أن الكوبيين "مولعين بالفنون" وأن هذا "الشغف يكتسبونه منذ الصغر في المدارس والمؤسسات الثقافية المختلفة". وتقول من جهتها آرلس فالديز صاحبة مكتبة لبيع الكتب القديمة أنها فتحت مكتبتها بمنزلها الخاص منذ مدة طويلة وأنها "سعيدة" بعملها وتعاملها اليومي مع السياح القادمين من كل حدب وصوب. لقد أسرت هذه المدينة -ذات الشوارع الضيقة والبنايات التي لا تتعدى غالبا الأربعة طوابق- العديد من مشاهير العالم لعل أبرزهم همنغواي الذي هام بعشقها وكتب بها روايته الشهيرة "لمن تقرع الأجراس" كما ألهمته في تأليف رائعته الأخرى "العجوز والبحر" الحائزة على نوبل للآداب لعام 1954. تتربع المدينة التراثية على مساحة 200 هكتار بها أكثر من 3000 بناية "اغلبها في حالة جيدة" ويقطنها حوالي 100 ألف نسمة من بين مليوني هافاني وفقا لتقارير محلية. ومنذ سنين قليلة صارت كوبا وجهة للسياحة الدولية في الكراييب خصوصا هافانا القديمة التي تجذب لوحدها حوالي المليوني سائح سنويا من أصل أكثر من أربعة ملايين يزورون البلاد. وتمثل السياحة في كوبا ثاني أهم مداخيل البلاد بما يعادل 10% من الناتج الداخلي الخام كما تساهم في خلق نصف مليون منصب شغل. ="إعادة الاعتبار لهافانا القديمة قرار سياسي لكاسترو نفسه"= رغم أن العديد من مباني "هافانا القديمة" -وهي في أغلبها أملاك دولة- قد تعرضت مع الوقت للزوال أو التغيير في الشكل وخاصة في الثمانينيات من القرن الماضي نتيجة العوامل البشرية والطبيعية (الأعاصير) إلا أن اهتمام الدولة المباشر وإشراك السكان مكنا من إنقاذ المدينة والحفاظ عليها كحاضرة عريقة. ويبدو واضحا في هذه المدينة القديمة التناغم الكبير الحاصل بين حرص الدولة الكوبية على حمايتها من خلال تطبيق القوانين الصادرة في هذا الإطار من جهة وكذا إشراك السكان في مختلف النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياحية والاقتصادية من جهة أخرى. وتشدد سياسة الدولة الكوبية في الحفاظ على "هافانا القديمة" وحمايتها على مبدأ "عدم ترحيل سكانها الأصليين بأي شكل من الاشكال". وقد بدأ الاهتمام الحكومي بهافانا القديمة منذ عام 1967 لما شرع "مكتب مؤرخ مدينة هافانا" المؤسس في 1938 بترميمها لتتم دسترة حمايتها في القانون الاساسي لكوبا سنة 1976 وصولا إلى تسجيلها كتراث وطني في 1978. ومن بين أهم النصوص القانونية الخاصة بحماية "هافانا القديمة" قرار 1993 الذي يمنح المكتب صلاحيات كبيرة أبرزها استغلال أملاك وبنايات في إطار نشاطات اقتصادية وسياحية وكذا فرض ضرائب على التجار ومؤجري الغرف والشقق السياحية لترميم المدينة القديمة. وصار المكتب -انطلاقا من 1993- "يمول نفسه ذاتيا" من خلال عوائد زيارة الأجانب للمتاحف والمراكز الثقافية المختلفة خصوصا وأن "أغلب هؤلاء السياح الذين يقصدون كوبا يفدون أساسا على هافانا القديمة" حيث يدير "مكتب مؤرخ مدينة هافانا" مؤسسة اخرى "هاباغوانكس" مهمتها الرئيسية جذب هؤلاء السياح إلى المدينة القديمة عن طريق تقديم عروض ثقافية وخدمات سياحية متنوعة بالفنادق والمقاهي والمطاعم والأسواق التي تملكها. ومن مهام المكتب أيضا العمل على "توظيف" ساكنة المكان في مختلف المراكز الإدارية والسياحية وغيرها و"تشجيع" مبادراتهم الاجتماعية والثقافية والسياحية والاقتصادية. كما يتعامل "مكتب مؤرخ مدينة هافانا" مع اليونسكو في مجال الاستفادة من الخبرات الدولية في عمليات الترميم. ويقول يوسيفيو ليال سبنغلر -المسؤول الأول بالمكتب عن ترميم "هافانا القديمة" وأحد أبرز مؤرخيها- في تصريحاته أن الفضل في إعادة الاعتبار ل"هافانا القديمة" يرجع إلى "قرار سياسي اتخذه الرئيس الراحل فيدال كاسترو يجعل من إشراك السكان المحليين" -من خلال إدماجهم في الحياة الاقتصادية والثقافية- الركيزة الاساسية في الحفاظ على هذا التراث.