دعا الدكتور قادة جليد إلى تجاوز السجال الإيديولوجي في كتابة تاريخنا الوطني، وترك الانتقاء والانغلاق جانبا، والاعتماد على المعرفة والمناهج العلمية متعددة التخصصات، بعيدا عن العواطف والأحكام المسبقة؛ قصد الوصول إلى صورة وحقائق جديدة من تاريخنا بكل محطاته ورموزه. أكد الدكتور جليد من جامعة معسكر في محاضرته التي ألقاها أول أمس بالمكتبة الوطنية، عن "سؤال العقل والتاريخ " ، أن سؤال العقل يعني "اللا مفكر فيه"، مشيرا إلى إعادة النظر في ثقافتنا وتاريخنا الوطني عن طريق البحث والنقاش عوض الاستمرار في شرح مفاهيم ونظريات في سياقها الغربي فقط، مع مراعاة المناهج التطبيقية، والممارسة، وتوظيف المناهج والنظريات بدل الدعوة إليها في المجرد. وقال: "أنا أطرح تساؤلات ولا أطرح إجابات؛ فالأسئلة تحدد آليات القراءة، وتفتح أفقا ورؤى جديدة" . وأشار المتحدث إلى أنه استمد مضمون محاضرته من كتابين له؛ أحدهما بعنوان "العقل الجزائري" ، والثاني خاص ب "استوغرافيا الخطابات التاريخية الجزائرية". ويتعلق موضوع العقل الجزائري بطرح عدة أسئلة؛ منها إصلاح الذهنيات، علما أن كل تحول اجتماعي أو تاريخي أو اقتصادي أو سياسي أو غيره يعرف تسارعا إلا التحول الثقافي الذي يبقى مقاوما، متسائلا: "هل يمكن بناء نهضة من غير عقل ناهض لم يراجع نفسه مع ذاته، ولا مع العالم والتاريخ وهو، حسبه، السؤال المفصلي الذي لا يقتصر جوابه على الفيلسوف، ولا على المؤرخ، ولا عالم الاجتماع، ولا على غيرهم، بل يعتمد على مناهج متعددة التخصصات بمضمون علمي وليس إيديولوجي، والتركيز على تفكيك المضمون لزعزعة بعض التصورات، ثم إعادة البناء من جديد" . وهنا توقف عند أهمية الثقافة الشعبية عندنا، التي تحوي العقل الجزائري؛ لذلك من الضروري كتابة تاريخ ثقافتنا الشعبية الشفهية، مؤكدا أنه لا وجود لأمم متحضرة وأخرى متخلفة، لكنّ هناك شعوبا مدروسة وأخرى لا، وبالتالي فإن غير المدروسة لا تفهم ذاتها، ولا نقاط ضعفها، ولا قوّتها. وكذلك الحال مع الاهتمام بمفهوم الزمن كضرورة في التاريخ، وكيف هي نظرة أي شعب إلى هذا الزمن؛ فهو عند الجزائريين، فكر وسلوك، مرادف للموت والفقر والجوع، فيقال مثلا: "فلان قتله الزمان" . ويقال أيضا: " احييني اليوم واقتلني غدوا" ؛ بمعنى إعدام المستقبل ورفضه ويقال: "راح ذاك الزمان بناسو.. وجاء هذا الزمان بفاسو"، وهذا ما تعرّض له الراحل مالك بن نبي في "شروط النهضة" ؛ حيث كتب: "الوقت ينتهي عندنا لعدم". الجانب الثاني من المحاضرة كان عن كيفية التأريخ عند المؤرخين الجزائريين، وما هي الحدود بين ما هو إيديوبوجي وما هو معرفي، وغالبا ما يكون زمن الفتح الإسلامي، حسبه، هو المقدس، بينما تدخل المجتمعات التاريخ عندما تؤسس الدولة، حسب ابن خلدون وهيغل، وبالتالي فإن التاريخ يبدأ بتأسيس دولة نوميديا مع ماسينيسا في القرن الثاني قبل الميلاد رغم أنّ هناك حياة ومجتمعا جزائريا؛ مع الفينيقيين والقرطاجيين والأمازيغ وغيرهم. وفي ذلك قال إن إسقاط ما هو قبل الإسلام "انغلاق" ، واصفا إياه بالمدونات الرسمية المنغلقة. كما اقترح ضرورة الخروج من السجال الذي حصل بين المدرسة التاريخية المعاصرة الجزائرية والمدرسة التاريخية الفرنسية (حسب الأستاذ محمد غانم)؛ فالأولى مثلتها جمعية العلماء المسلمين من خلال محمد الميلي وتوفيق المدني، وأيضا الحركة الوطنية مع مصطفى لشرف وساحلي. وكان همّ الجميع الرد على افتراءات المدرسة الفرنسية. وانشغلت بذلك، فأصبحت تضخم من تاريخنا خاصة في المرحلة الإسلامية، وكذا في العهد العثماني، ووقعوا في الانتقائية التاريخية. ودعا المتحدث إلى دراسة تاريخنا بعيدا عن العواطف، وضمن طابعه البنيوي التزامني وليس الكرونولوجي؛ إذ إن لكل فترة تاريخية خصوصياتها وظروفها. ولاتزال الجزائر تسكن أحيانا داخل هذا التاريخ الخفي المجهول، الذي لا بد من اختراقه بطرح أسئلة جديدة. وتعرّض المحاضر في سياق حديثه، لتاريخ الملكة، والقديسة روبا التي قتلها الرومان بعد مقاومتها لهم بمعسكر، وهي لاتزال حية في الثقافة الشعبية، قائلا إنه سمع عنها وهو طفل، ثم اكتشف أن الفرنسيين قبل الاستقلال قاموا بحفريات في آثارها ببلدية بنيان، ليهدموها فيما بعد؛ كي لا يذكر تاريخها؛ بسبب خلاف عقائدي؛ حيث كانت هي من الديانة الدوتانية (المسيحية) التي حاربت روما. وقال المحاضر أيضا إن الرموز التاريخية تبقى رموزا وطنية جامعة رغم اختلاف الإيديولوجيات.