وحدّث يا ميسرة ولا تملّ الحديث فسيّدتك خديجة الطاهرة في عجب مما تقول، وأسهب يا ميسرة بوصف أخلاق رفيقك الصادق الأمين، حلمه وسماحته، جوده ونداه، عطفه وعفته، بركة كسبه ووفرة ربحه، وأمانته في بيعه وشرائه، فسيدة نساء قريش ترى كسب تجارتها في ازدياد مذ صار محمد الأمين راعي مالها، المرتحل به رحلة الشتاء والصيف. وتقع صفات محمد من قلبها الشريف موقعا حسنا، ويحدثها عقلها الرزين بأنه ما من رجل في قريش يفضله زوجا لها، وهي شريفة النسب علية الحسب، الملقبة بالطاهرة، سيدة نساء قريش بحق، يخطبها كبراء القوم، وقد ترملت مرتين، فلا تجد في نفسها ميلاً ولا قبولاً لأحد منهم، فروحها النقية تحلّق في أفق المكرمات، وقلبها الطيّب لا ينقاد لأي دعوة زواج من وجيه أو سيّد مطاع. ويتزوج محمد بن عبد الله الصادق الأمين خديجة بنت خويلد الطاهرة الشريفة، ويتردد في أرجاء مكة أنّ خديجة قد رضيت محمداً زوجاً لها، فينشق غيظا صدر ذاك السيّد العظيم في ناديه، أن يلقى من خديجة الرفض، ويلقى منها محمد القبول، وتمتلئ عجباً نفس ذلك السيّد الثري الكانز لآلاف الدراهم والدنانير، ألّا تهتبل خديجة الثرية عرضه فيتضاعف مالها ويزداد، ويرى أهل الفضل والحلم في هذا الزواج كفاءة وخيرا، وهم يعرفون لمحمد وخديجة قدرهما وكمال خلقهما وطهر نفوسهما، فتغدو مكة كلها فرحة بهذا الزواج المبارك ويعيش الزوجان حياة طيبة كريمة، ويرزقان ذرية طيبة، وتمضي أيامهما في هناء ورغد وانسجام. ويحين شهر رمضان وهو موعد تعبّد محمد كل عام، ومكان تفكره وعزلته في غار حراء، وهي عادة اعتادها فلا يقطعها، وما كان ليعرف أنها ذات عام ستكون موعد بعثته نبياً ورسولاً، ونقطة انطلاق الهدى والنور والبركات. ويهبط الوحي الأمين بكلمات الله الباقية الخالدة ليحمّله أمانة الرسالة، وشرف النبوّة، ومحمد يسمع الوحي ويراه، فيفرق ويرتعب، ويعود إلى بيته، حيث القلب الحنون والنفس الطيبة، والمودّة الخالصة، فتتلقاه خديجة الودودة المحبة تطمئنه وتبشره وتهدئ من روعه.. روى الإمام البخاري في صحيحه وغيره عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه عندما رجع رسول الله صلى الله وسلم أول ما أوحي إليه من غار حراء، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: (زمِّلوني، زملوني) فزمّلوه، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة: كلا والله! ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وتمضي رحلتهما معاً بعد البعثة، وقد آمنت به صلى الله عليه وسلم رسولاً هادياً، وآزرته رضوان الله عليها وواسته بنفسها، ومالها ونصرته وأعانته في كل ميدان طرقه، وشاركته كل شدّة وكربه فمن المقاطعة إلى المحاصرة في شعب بني هاشم، صبر يتلوه احتساب، وبذل يتبعه رضى وتقدير، وتظل خديجة دائماً حانية صابرة، ويظل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاً محباً وفياً. وتحين لحظة الفراق المحتوم، وتطوف حول الزوجين المتحابين المترافقين لربع قرن من الزمان، تطوف بهما ساعات الوداع القاسي الأليم، وقلب النبيّ يرقّ إشفاقاً وحزناً، وقلب خديجة يشتاق للجنة، ويتنازعه الحنوّ والعطف، والخوف عليه صلى الله عليه وسلّم أن ينصب ويتعب، حين يفقد الشريكة الداعمة الطيبة، تلك التي كانت ذات يوم نصف الإسلام، عشية آمنت برسول الله ولم يكن غيرها معه بعد. وتذكر خديجة وهي مقبلة على ربّها بيقين ورضى، تذكر حين يبشّرها زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أتاه جبريل عليه السلام فقال: (يا رسول اللَه! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إدامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ). فتستبشر خيرا من ربها وتلقاه سبحانه راضية مرضية. ويسير ركب الدعوة إلى الله، ويهاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة، وقد أخرجه الذين كفروا، حين صدّت قلوبهم عن ذكر الله، وأضلهم إبليس عن الهدى، فتلقاه أهل المدينة بقلوبهم ومحبتهم، وأسكنوه عيونهم وأفئدتهم، واستقر به المقام في دار الهجرة الشريفة، وانطلقت أشعة الهدى تملأ الأرض دفئاً ورحمة وعدلاً، وفي غمار معركة التوحيد والجهاد وإقامة الشرع؛ لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم خديجة الطيبة الطاهرة، فها هو يذكرها ويذكرها، ويسر لرؤية من يذكّره بها.. وتغار عائشة رضي الله عنها لكثرة ذكره صلى الله عليه وسلم لخديجة، وذلك لشدة حبها له صلى الله عليه وسلم، وها هي تقول: ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها، ولكن كان النبي يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة رضي الله عنها، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فيقول: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد). وحين يذكرها صلى الله عليه وسلم؛ يذكر الود والطيب والمؤازرة الصادقة والمودة الخالصة، وقد استقر ودها في قلبه الشريف فيقول: (لقد رُزقت حبّها).