محمد صلى الله عليه وسلم .. لولاه لهلكنا ومتنا على الكفر، واستحققنا الخلود في النار.. به عرفنا طريق الله، وبه عرفنا مكائد الشيطان.. شوقَنَا إلى الجنة، ما من طيب إلا وأرشدنا إليه، وما من خبيث إلا ونهانا عنه، ومن حقه علينا أن نحبه؛ لأنه: يحشر المرء مع من أحب جاء أعرابي إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة ؟! قال رسول الله: (ما أعددت لها؟) قال: إني أحب الله ورسوله. قال: (أنت مع من أحببت). بهذا الحب تلقى رسول الله على الحوض، فتشرب الشربة المباركة الهنيئة التي لا ظمأ بعدها أبدًا. أبشر بها يا ثوبان قال القرطبي: كان ثوبان مولى رسول الله شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له النبي: (ما غير لونك؟!) قال: يا رسول الله، ما بي ضر ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبدًا. فأنزل الله قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. رحم الله ثوبان! حيث إن حال ثوبان مع رسول الله كما قال الشاعر: الحزن يحرقه والليل يقلقه *** والصبر يسكته والحب ينطقه ويستر الحال عمن ليس *** يعذره وكيف يستره والدمع يسبقه محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. لولا أن الله أرسل محمدًا لنزل العذاب بالأمة.. لولا محمد صلى الله عليه وسلم لاستحققنا الخلود في النار.. لولا محمد صلى الله عليه وسلم لضعنا. قال ابن القيم في جلاء الأفهام: إنَّ عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته. أما أتباعه: فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة. وأما أعداؤه المحاربون له: فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب الله عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم. وأما المعاهدون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شرًّا بذلك العهد من المحاربين له. وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوراة وغيرها. وأما الأمم النائية عنه: فإن الله رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض. فأصاب كل العاملين النفع برسالته. لطيفة: قال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي، فإنه قال فيه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وقال في نفسه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]. اصبر لكل مصيبة وتجلد *** واعلم بأن المرء غير مخلد واصبر كما صبر الكرام فإنها *** نوب تنوب اليوم تكشف في غد وإذا أتتك مصيبة تبلى بها *** فاذكر مصابك بالنبي محمد الجماد أحب محمدًا.. وأنت؟! لما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه، وصاح كما يصيح الصبي، فنزل إليه فاعتنقه، فجعل يهذي كما يهذي الصبي الذي يسكن عند بكائه، فقال: لو لم أعتنقه لحنَّ إلى يوم القيامة. كان الحسن البصري إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنُّ إلى رسول الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. محمد صلى الله عليه وسلم ما أشد حبه لنا!! تلا النبي محمد قول الله في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]. وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي، أمتي). وبكى، فقال الله: (يا جبريل، اذهب إلى محمد فسله: ما يبكيك؟) فأتاه جبريل فسأله، فأخبره النبي بما قال، فأخبر جبريل ربه وهو أعلم، فقال الله: (يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). لماذا نحب محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ تحب محمدًا حتى لا تكون فاسقًا قال الله في سورة التوبة التي سميت بالفاضحة والمبعثرة؛ لأنها فضحت المنافقين وبعثرت جمعهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. قال القاضي عياض: فكفى بهذا حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على إلزام محبته (أي: محمد صلى الله عليه وسلم) ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها، إذ قرع الله من كان ماله وولده وأهله أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن أضل ولم يهده الله. كمال الإيمان في محبة محمد صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). قد تمر علينا هذه الكلمات مرورًا عابرًا لكنها لم تكن كذلك مع رجل من أمثال عمر بن الخطاب الذي قال: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي: (لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك). فقال عمر: فإنه الآن والله، لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي: (الآن يا عمر). قال الخطابي: (فمعناه أن تصدق في حبي حتى تفني نفسك في طاعتي، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك). محمد صلى الله عليه وسلم آخذ بحجزنا عن النار عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (مثلي كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها). ما أشد حب رسولنا لنا! ولأنه يحبنا خاف علينا من كل ما يؤذينا، وهل أذى مثل النار؟! ولما كان الله قد أراه النار حقيقة كانت موعظته أبلغ، وخوفه علينا أشد؛ ففي الحديث: (وعرضت عليَّ النار، فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاني). وفى رواية أحمد: (إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي). ولذلك كان من الطبيعي أنه (كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم). ولأنه لم يرنا مع شدة حبه لنا وخوفه علينا، كان يود أن يرانا فيحذرنا بنفسه؛ لتكون العظة أبلغ وأنجح، قال: (وددت أنى لقيت إخواني الذين آمنوا ولم يروني). ولم يكتف بذلك، بل لشدة حبه لنا اشتد إلحاحه لنا في أن نأخذ وقايتنا وجنتنا من النار. حجاب.. واثنان.. وثلاثة 1- حجاب الصدقة: لقوله: (اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا ولو بشق تمرة). 2- حجاب الذكر: فعن أبي هريرة ، قال: (خذوا جنتكم من النار.. قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات)[1]. 3- حجاب تربية البنات: لقوله: (ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، فيحسن إليهن إلا كُنَّ له سترًا من النار). محمد صلى الله عليه وسلم ولي كل مؤمن قال رسول الله: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفى من المؤمنين فترك دينًا فعليَّ قضاؤه). أعميت عيني عن الدنيا وزينتها *** فأنت والروح شيء غير مفترق إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق *** من أول الليل حتى مطلع الفلق وما تطابقت الأجفان عن سنة *** إلا وإنك بين الجفن والحدق محمد صلى الله عليه وسلم ما أشرف مقامه!! لكي تذوق حلاوة الإيمان لقول النبي: (ثلاث من كن فيه ذاق حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...). وهذه مكافأة يمنحها الله لكل من آثر الله ورسوله على هواه، فيحس أن للإيمان حلاوة تتضاءل معه كل اللذات الأرضية، ولأن من أحب شيئًا أكثر من ذكره، فكلما ازداد العبد لرسول الله حبًّا ازداد له ذكرًا، ولأحاديثه ترديدًا، ولسنته اتباعًا، ومع هذا كل تزداد حلاوة الإيمان. محمد صلى الله عليه وسلم وثيقة حب .. وقعها بالدم - ففي الطائف وقف المشركون له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه. - ومع بنى عامر بن صعصعة: يعرض النبي عليهم الإسلام ويطلب النصرة، فيجيبونه إلى طلبه، وبينما هو معهم إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري، فأثناهم عن إجابتهم له، ثم أقبل على النبي فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك. فقام النبي إلى ناقة فركبها، فغمزها بيحرة، فألقت النبي من على ظهرها. تصور حالته وقد قرب على الخمسين من عمره! ويسقط من ظهر الناقة ويتلوى من شدة الألم على الأرض، والارتفاع ليس بسيطًا، إنه يسقط على بطنه من ارتفاع مترين ونصف. - بينما النبي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله؟!). - وغير ذلك: يوضع سلا جزور على كتفيه وهو ساجد، وينثر سفيه سفهاء قريش على رأسه التراب، ويتفل شقيٌّ من الأشقياء في وجهه . صبر على ذلك كله؛ لأنه يحبنا.. أوذي وضُرب وعذِّب.. اتهم بالسحر والكهانة والجنون.. قتلوا أصحابه.. بل وحاولوا قتله.. وصبر على كل ذلك؛ كي يستنقذنا من العذاب، ويهدينا من الضلال، ويعتق رقابنا من النار. وبعد كل هذا البذل والتعب!! نهجر سنته، ونقتدي بغيره، ونستبدل هدى غيره بهديه!! يا ويحنا!! وقد أحبنا وضحَّى من أجلنا لينقذنا، ودعانا إلى حبه، لا لننفعه في شيء بل لننفع أنفسنا، فأين حياؤنا منه؟! وحبنا له؟! بأي وجه سنلقاه على الحوض؟! بأي عملٍ نرتجي شفاعته ؟! -بأبي هو وأمي- بأي طاعة نأمل مقابلته في الفردوس؟!