كانت الحافلة، والتي انطلقت من ساحة الشهداء باتجاه ابن عكنون، ممتلئة عن آخرها، وتمشي ببطيء غريب، حتى لتحسب أنها لن تصل إلى هدفها أبدا، أو لن تصل إلاّ وقد سقط بعض المسافرين أرضا مغشيا عليهم، فالجوّ كان خانقا. وكانت الحافلة تتوقف في كلّ محطة تحمل مسافرين وتضع آخرين والذين كانوا ينزلون مهرولين فيتنفسوا الصعداء كما لو كانوا خارجين توا من الجحيم، وعند وصولها إلى"رونفالي" صعد رجلٌ أربعيني، بدا من مشيته وحركاته أنه مخمور، وان الخمر أفقده الإحساس والإدراك، فلم يعد يعي ما يفعل وما يقول، وحاول البعض منعه من الصعود، إلاّ أنهم لم يقدروا، وسرعان ما اتخذ مكانه بين المسافرين، واختار ركنا ضيقا انزوى فيه. وما إن انطلقت الحافلة في السير، حتى راح السكران يغني بصوت مبحوح أغنية رايوية: "ساعفتك شحال يا العاقلة... ولقيت لفراق سلاكها..."، وظلّ كذلك، يردد مقاطع لا تناسق بينها، إلى أن التفّ حوله بعض المراهقين، والذين راحوا يسخرون منه، ومن صوته، ومن منظره، وجلسته، قبل أن يخوضوا معه حديثا كان يحاولون فيه أن يقوّلوه السخافات التي لا تخلو من صدق، والتي لا تخرج إلاّ من أفواه السكارى والمخمورين. سأله المراهق الذي كان يقف بقربه عن وجهته فقال السكران مبتسما: "إن لم تُذهبوا النشوة من عقلي فسأصل إلى القمر، إن شاء الله" فتعالت القهقهات بين المسافرين والذين أعجبوا بإجابته تلك، ولكن لم يكتف هؤلاء المراهقون بذلك، فسأله آخر: "هل تعلم أنّ ثمن تذكرة الحافلة ارتفع إلى ثلاثين دينارا؟"، فالتفت السكران من حوله، وألقى بنظرة على وجوه المسافرين، ثم قال بنبرة ساخرة: "اجل، واعلم أيضا أنكم بائسون، لا تعترضون ولا تثورون ولا شيء، ورضيتم بذلك وقبلتم الذلّ ديناً لكم" فخيَّم عندها صمتٌ على أرجاء الحافلة، وراح المسافرون ينظرون إلى بعضهم بعض، يلمحون اثر إجابة السكران على وجوه غيرهم، ومضت لحظات قبل أن يضيف نفس المراهق بنبرة جادّة هذه المرّة: "لم تسكر، ألاّ تعلم أنّ الخمرة مضرّة؟" فأجاب دون حتى أن يفكر: "لا فرق بيني وبينكم، فانا اسكر كلّ ليلة، وانتم تسكرون كلّ لحظة، لكن كأسي أملؤها بيدي، وأتوب عنها متى شئت، وشرابي فيه نشوة، وينتشلني من عالمكم الفاجر، أما انتم فيخدرونكم كلّ يوم، وتسكرون رغما عنكم، وشرابكم لا يذهب الأبدان فقط، ولكن يميت العقول والقلوب". استغرب الجميع لإجابة السكران، أمّا هؤلاء المراهقون، فلم يفهموا شيئا، ولكنهم لم يضحكوا، ولا شيء، بل سأله احدهم متحديا: "هل سمعت بويكيليكس؟" فنظر إليه السكران وأجاب: "اجل، أعجوبة 2010، أدركنا من خلالها أنّ من خوارق بعض القادة العرب أنهم قادرون على تزييف الحقائق وإخفائها على الشعوب حتى لو نشرت على الانترنيت، فيدعون البراءة وان الفضائح لم تمسّهم، وهم أوسخ البشر" ثمّ صمت السكران قليلا، ولم يجرؤ احد على الحديث إلى أن استأنف يردد بمرارة: "وأوسخ مني كذلك".