تمهل يا مطهر الأرواح من الأنجاس رمضان .. غرة مواسم الطاعات العمر من أجل ثروات العبد، واستثماره ديدن أهل الكياسة والإيمان، فأشد الحمق التغافل عن مواسم الطاعات، وأعظم الغبن تفويت مواطن القربات، ولولا فطنة أهل البصيرة لنفحات الله تعالى في تلك المواسم لما وجد المقربون ولا السابقون، ورغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يغفر له، وخاب من فوت بركات الصيام في اللغو والرفث، فثواب رمضان أنفع حصاد السنين وأعظم بركة للمتقين، وكيف لا وقد تكفل لهم رب العالمين بالعتق من نار الجحيم. قال الشيخ أبو بكر الجزائري: (هذه خطة لحياة المسلم وضعت لنبي الإِسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- ليطبقها أمام المسلمين ويطبقونها معهم حتى الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي: فإِذا فرغت من عمل ديني فانصب لعمل دنيوي، وإذا فرغت من عمل دنيوي فانصب لعمل ديني أخروي. فمثلا فرغت من الصلاة فانصب نفسك للذكر والدعاء بعدها، فرغت من الصلاة والدعاء فانصب نفسك لدنياك، فرغت من الجهاد فانصب نفسك للحج). [أيسر التفاسير] وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني الإيمانية. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون عن محمد بن أبي عميرة - رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو أنَّ رجلاً يخرُّ على وجهه من يوم وُلد إلى يوم يموت هرَماً في طاعة الله -عز وجل- لحقره ذلك اليوم، ولَودَّ أنه رُدَّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب) [رواه أحمد وصححه الألباني]. قال غنيم بن قيس: (كنا نتواعظ في أول الإسلام: ابن آدم اعمل في فراغك قبل شغلك وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك لموتك). يقول الإمام ابن رجب -رحمه الله-: (فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تُصيبه نفحةٌ من تلك النفحات، فيَسعدَ بها سعادةً يأمنُ بعدها من النار وما فيها من اللفحات) وورد في الأثر عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ). ورمضان ساحة فريدة جمعت الكثير من صنوف الطاعات: صيام وصدقة وتلاوة قرآن وذكر وعاء وقيام والعشر الأواخر من أيامه بما فيها ليلة القدر والاعتكاف وصدقة الفطر .. فمن لا يطيق فضيلة فهو يجتهد في غيرها، ومن فاتته فرصة للخير فهو يغتنم أخرى. وأيام رمضان ولياليه كلها مباركة، وهي أيام وليال يتضاعف فيها الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين. وتبلغ المنح الإلهية ذروتها في (ليلة القدر) التي هي خير من ألف شهر .. .. إنها ليلة التكريم الإلهي لأمة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم .. ليلة تضاعف فيها الطاعات ألف شهر لتصبح أعمال العبد المسلم في نهاية المطاف عند الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة من العمل الصالح ما لا يمكن أن تدركه أمة أخرى. إن شهر رمضان بمثابة حمام روحي ومغتسل سنوي يتطهر فيه المسلم من أوضار الذنوب والخطايا .. نهاره صائم، وليله قائم، وعمله دائم: فهو بين تلاوة للقرآن، وذكر للرحمن، وشتى مظاهر الجود والإحسان.