عبد العزيز كحيل بعد أن ذاقوا مرارة التيه وفقدان البلد وفراق الأهل عقودا من الزمن من جراء تقاعسهم عن الجهاد وتحرير أرضهم ثاب بنو إسرائيل إلى رشدهم وأعلنوا استعدادهم لخوض الحرب ضد من احتلوا بلادهم أي انتقلوا من السلبية إلى الإيجابية (إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله) وبغض النظر عن استمرار ضمور الجانب الإنساني فيهم- إذ كان ينبغي أن يختاروا من بينهم قائداً- فإن الله تعالى ثمن هذه النقلة وكلل المعركة الفاصلة بالنجاح رغم ما اكتنفها من أسباب الفشل من الوهلة الأولى بدءاً بتعيين قائد (طالوت) مختلف فيه (أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) ومروراً بالانهزام أمام الابتلاء بالنهر الذي أمروا ألاّ يشربوا منه (فشربوا منه إلا قليلا منهم) وانتهاءً بمقابلة جيش الجبابرة الضخم بفئة قليلة انهزمت منها طائفة أخرى بعد عبور النهر (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنودهم) وهكذا شاءت الإرادة الإلهية أن تسير المعركة إلى نتائج تخالف المقدمات فتحقق النصر رغم توفر عوامل الهزيمة لماذا؟ إن المعركة جاءت بعد سلسلة من المعجزات الحسية التي وقعت على يد نبي بني إسرائيل الأكبر موسى عليه السلام فلم يكن الانتصار هذه المرة بخارقة مثل انفلاق البحر وإنما بأسباب البشرية يكلؤها الله تعالى وهذا هو سر النجاح فالقوم ألفوا أن تحل السماء مشكلاتهم فركنوا إلى ذلك ولما استنهضهم موسى لاسترداد أراضيهم المغتصبة ورفضوا بذل الجهد الإنساني سلط عليهم عقوبة التشريد فلما عادوا إلى الأخذ بالأسباب أيدهم الله وجاءهم المدد رغم ما في عودتهم إلى الأسباب من اهتزاز وهشاشة فكان أن انتصرت القلة الباقية بفضل إيمانها العميق وثباتها على الحق (قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) وأكثر من ذلك فقد كان هلاك كبير للجبابرة على يد جندي مغمور لم يسبق له ذكر (وقتل داود جالوت) وآلت الأمور إلى تحرير الأرض وتسليط الضوء على داود الذي سيخرج من الظل ليصبح ملكاً نبياً (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) وكل هذا يشير بوضوح إلى أهمية الجانب الإنساني في تحقيق النتائج الكبيرة إذا توفر معه الاعتماد على الله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فلله في خلقه سنن مطردة يحقق المنسجمة معها ما أراد من أهداف ويجر المتنكب لها على نفسه عقوبات عاجلة كالاستعمار والتخلف فلولا عودة بني إسرائيل جوزي إلى الأخذ بالأسباب ما حرروا أرضهم ولولا بلاؤه الحسن في الحرب ما جوزي داود عليه السلام وإذا صدق العزم فإن الله يبارك الجهد القليل وقد كانت هذه المعركة ضد جالوت وجنوده نهاية لعهد الضعف والتمرد على السنن وشكلت نقطة عبور إلى مرحلة التمكين في الأرض وبناء الحضارة الراقية والدولة القوية على يد داود عليه السلام والقصة ليست حدثاً مضى بل هي مجموعة نفسية من الدروس والعبر في خطورة الركون إلى المعجزة وأهمية الجهد الإنساني المادي والأدبي المنسجم مع المرجعية الدينية الخالدة. وقد ختمت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم- المعجزات السماوية وفتحت عهد المعجزات الإنسانية أي تلك النتائج الطيبة الرفيعة المدهشة التي يحققها المؤمن حين يعي أهمية الجانب الإنساني فيفرغه في النسف الرباني.