الشيخ: قسول جلول نسمع كثيرا هذه الكلمة(الحس المدني) من مصادر مختلفة سياسية واجتماعية وعلى ألسنة الكثير من الناس وهي من المصطلحات التي شاعت في عصرنا وأصبح لها حضورا قويا في ثقافات الناس وهدف إلى تحقيق أغراض متعددة تخدم الفرد والمجتمع ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والرحمة. إلا أن الإيهام الظاهر في العنوان (الحس المدني) وبين قيمة من قيم الإسلام الخالدة وهي الرحمة كما ورد في العنوان والعلاقة بين الحس المدني ومع ما قرر الإسلام من مثل وقيم وأبعاد اجتماعية وإنسانية في أحكامه وتشريعاته يرتفع الإلباس ويعم النفع في أصول النظام الاجتماعي ومن الفطرة الإنسانية انفعالاً للنفس برقة ورحمة عند مشاهدة الضعف والحاجة لاستشعار تألم المحتاج ثم اندفاع بذلك الانفعال إلى السعي لتخليصه من آلام تلك الحاجة لا يتخلف هذا الإحساس إلا من قلوب قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة ولما كان سلوك الإنسان وما يرتبط به مع غيره بوشائج الدم والقرابة أو الجوار أو الشراكة أو العمل وفي علاقاته داخل الدائرة الجماعية من أضيقها إلى أوسعها هو محور التشريعات المختلفة التي جاء بها الإسلام يبرز بجلاء البعد الاجتماعي في ذلك وهذا الجانب الذي اصطلح على تسميته بالحس المدني الذي يكتسي أهمية كبيرة إذ يعتبر أحد مظاهر المجتمع السليم وبخاصة إذا كان منطلقه وقراءته من خلال تعاليم الوحي الذي يتسم بوضوح الرؤية وشمول المعالجة بحيث يجعل من الحس المدني ذات قيمة حضارية راقية تتناسب وتكريم الجنس البشري فالإسلام هو الذي جعل الشعور والحس بالآخرين والاهتمام بهم من أولويات مبادئه الخالدة وشعائره الثابتة. التي يدعو إليها وهي الرحمة والإحساس بالآخرين ولا مناص للإنسان من الاجتماع مع غيره من بني جنسه وربطه برباط المحبة والتراحم لأن الحياة الجماعية سنة من سنن الكون وضرورة بشرية ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذا الكون وأن يكون سيداً فيه دون أن يتعاون مع الآخرين فالإنسان بطبعه يميل إلى التعارف والتعايش والتراحم مع غيره. إذاً فالحس المدني في الإسلام نابع من رسالته الاجتماعية ومن هذا النبع الإسلامي الاجتماعي فالعبادات تمتاز بأنها ذات طابع اجتماعي وإنساني شامل وعميق عمق الإيمان بالله الذي هو روح العبادات. فالإسلام في عقيدته وشريعته ينهى عن الانعزالية والرهبانية بل أوامره ونواهيه جاءت في سياق اجتماعي مثل الحث على التعاون والتواصي بالحق والتواصي بالصبر فعلى كل فرد في المجتمعات الإسلامية أن يعي رسالته في الحس المدني الإسلامي والناس في حاجة إلى الحس المدني وإلى كَنَف رحيم ورعاية حانية وبشاشة سمحة هم بحاجة إلى وُدّ يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم ولا ينفر من ضعفهم في حاجة إلى قلب كبير يمنحهم ويعطيهم ولا يتطلع إلى ما في أيديهم يحمل همومهم ولا يثقلهم بهمومه. إن تبلُّد الحس أو ما يعبر عنه بلغة العصر الحس المدني أو الشعور والمشائر وعدم التألم لآلام الآخرين يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحطّ الإنسانُ بغير قلب رحيم أشبه بالآلة الصماء وهو بغير روح رحيم أشبه بالحجر الصلب. إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه لا في أكوام لحمه وعظامه. بالروح والقلب يعيش ويشعر وينفعل ويتأثر ويرحم ويتألم. فالرحمة أو بلغة الحس المدني يعني كمال في الطبيعة البشرية تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق فيسعى لإزالتها كما يسعى لمواساتهم كما يأسف لأخطائهم فيتمنّى هدايتهم ويتلمّس أعذارهم ويلتمس لهم الخير .....!!! وهي أيضا أي الحس المدني أو بلغة الدين الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلُق تحمل صاحبها على البر وتهبّ عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطّب معه الحياة وتأنس له الأفئدة. تنافس في الخير فالخيرية التي يكتسبها المجتمع هي التي تجعله يتميز عن الآخرين ويتنافس في الخير ونفع العباد ....!! قال تعالى((لَّا خَيْرَ فِي كَثِير مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا))الآية 114سورة النساء. ويبين أن المجتمع لا بد له من رحمة يضيء بها القلوب ويحيي بها النفوس ... ففي الحديث الصحيح: ((جعل الله الرحمة مائة جزء أنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)). وربنا سبحانه متصفٌ بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين فهو أرحم الراحمين وخير الراحمين وسعت رحمته كل شيء وعمّ بها كل حي وملائكة الرحمة -وهي تدعو للمؤمنين- أثنت على ربها وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة قال تعالى((رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيء رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)) غافرالآية:7 وفي الحديث القدسي:((إن رحمتي تغلب غضبي)) في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال الله تعالى: وَقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ سورة المؤمنون الآية 118 إن رحمة الله سببٌ واصل بين الله وبين عباده بها أرسل رسله إليهم وأنزل كتبه عليهم وبها هداهم وبها يسكنهم دار ثوابه وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:57 58]. فالإسلام رحمة للبشرية كلها دعا إلى التراحم وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطفٌ مدخور وبرّ مكنون يوسع لهم ويخفف عنهم ويواسيهم فهي رحمة عامة تسع العامة كلهم وأحاديث رسول الله تُبرز هذه العموم في إسداء الرحمة والحث على إفشائها وانتشارها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) متفق عليه وفي الحديث الآخر: ((من لا يرحم لا يُرحم)) ومن أعظم ما تُستجلب به رحمة الله -عباد الله والإحساس بالآخرين _ الرحمة بعباده ففي الحديث الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) رواه أبو داود والترمذي. فإن المؤمن قويَّ الإيمان قوي الإحساس (المدني) يتميّز بقلب حيّ مرهف لين رحيم يرقّ للضعيف ويألم للحزين ويحنّ على المسكين ويمدّ يده إلى الملهوف وينفر من الإيذاء ويكره الجريمة فهو مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله. هذا هو الحس المدني أي الإحساس بالآخرين وجلب الخير لهم والتعاون معهم رأفة ورحمة ..