جدل متواصل بشأن غلق المساجد ** من إملاء: الشيخ الدكتور التواتي بن التواتي الأغواطي يتواصل إغلاق المساجد في إطار العمل على الحد من تفشي وباء كورونا الذي عطّل حركية الحياة عبر أرجاء المعمورة ويتواصل معه الجدل بشأن مشروعية ذلك حيث تأسف كثيرون للأمر وقالوا إن الأولى كان الفرار إلى الله طلبا لغوثه ورفع البلاء وليس الفرار من بيوت الله كما يثار جدل فقهي بشأن عدة أمور مثل تغسيل المتوفين بهذا المرض وغير ذلك وبهذا الشأن تلقت أخبار اليوم مساهمة قيّمة من الشيخ الدكتور التواتي بن التواتي الأغواطي تنشرها كما وردت تعميما للفائدة.. يقول الشيخ التواتي بن التواتي الأغواطي: جاءني عن طريق الهاتف أسئلة من أحدهم: ارتأى المقام تعميمها ونشرها بين الناس: السؤال الأول: قال صاحبه: ورد في الحديث لا عدوى في الإسلام فَلِمَا تغلق المساجد التي فيها التضرع إلى الله تعالى؟. الجواب: نص الحديث لا عدوى ولا هامة فيما علمت ومن خلال السؤال أدركت أن السائل يحز في نفسه غلق المساجد وإن غيرته على الدين صحيحة لا يشك فيها وإنما فهم الحديث لا عدوى فهما غير صحيح وننبه أن أبا هريرةt راوي الحديث صمت عن قوله: لا عدوى وأقام على أن لا يورد ممرض على مصح ذكر ذلك محدث الأندلس ابن عبد البر في كتابه التمهيد . وأن حديث لا عدوى أورده رسول الله صلى الله عليه وسلم للرد على الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أن الأسباب تؤثر بطبيعتها في المسببات وأن الله لا يؤثر فيها - فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بألا عدوى مؤثرة بطبيعتها. وقد أفتى أهل العلم أنه لا يجوز لحامل المرض المعدي مخالطة الناس عموماً ولا مخالطة معين إلا بإذنه وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الناس لهم بل يسكنون في مكان منفرد. وأن المصابين بالأمراض المعدية يمنعون من المساجد ويتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء الذين يجب عليهم أن يفروا من ملاقاتهم ومخالطتهم لئلا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة التي نهى الله عنها. وقد ثبت البحث الطبي أن الأمراض المعدية تنتقل بواسطة الميكروبات ويحملها الهواء أو البصاق أو غير ذلك على اختلاف أنواعها وأن تأثيرها في الصحيح إنما يكون تبعا لقوّته وضعفه بالنسبة لكل نوع من الأنواع. وأن كثيرا من الناس لديهم وقاية خلقية تمنع قبولهم لبعض الأمراض المعيّنة ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال فاختلاط الصحيح بالمريض سبب لنقل المرض. وقد ثبت في كتب السنة الحث على النظافة التي هي من الإيمان ومن أهم أنواعها نظافة المساكن والدور وأماكن العبادة والمجمعات وغير ذلك. هذا ما يقوله ديننا عن اجتناب الأمراض المعدية والأصل الشرعي في مشروعية اجتناب الأمراض المعدية واضح في الكتاب والسنة: -أما الكتاب فقول الله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة البقرة: 195. وقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما النساء: 29. -أما السنة أخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال كان في وفد ثقيف رجل مجذوم يريد مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع . -وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: فر من المجذوم كما تفر من الأسد . وفي رواية أخرى عَن عَبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أَو رمحين.. وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يوردن ممرض على مصح أخرجه البخاري ومسلم. -وقوله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها . وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عاد بمن معه إلى المدينة حين سمع بوقوع طاعون عمواس في الشام. قال أبو الوليد الباجي: الأمر بالفرار للإباحة أي: إذا لم تصبر على أذاه وكرهت مخالطته فيباح لك أن تفر منه. -عن مالك عن بكير بن عبد الله الأشج عن أبي عطية أو ابن عطية عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا هامة ولا صفر ولا يعدي سقيم صحيحا ولا يحل سقيم على المصح إلا بإذنه. ويحل المصح مع من شاء..فقالوا: يا رسول الله! وما ذاك؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أذى . قال الباجي: قوله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى قال: عيسى بن دينار معناه لا يعدي شيء شيئا أي: لا يتحول شيء من المرض إلى غير الذي هو به قال: وسمعته من ابن وهب ومعنى ذلك عندي أن العرب كانت تعتقد أن الصحيح إذا جاور المريض أعداه مرضه أي: تعلق به أو انتقل إليه قال شاعرهم: جانِيكَ مَن يَجني عليك وقد _ تُعْدِي الصحاحَ مَبارك الجُربِ فكذب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبيّن أن ذلك كله من عند الله تبارك وتعالى وقد روى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن أعرابيا قال: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل لكأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول وهذا من أبين طرق الحجاج والإرشاد إلى الصواب وإيضاح وجه الحق لأن الأعرابي دخلت عليه الشبهة بأن الإبل تكون في الرمل وهو موضع صالح ليس فيه ما يمرضها فتكون فيه كالظباء حسنا وسلامة من الجرب وغيره فيأتي بعير أجرب فيدخل بينها فيشملها الجرب فاعتقد الأعرابي أن ذلك البعير قد أعداها جربه فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم لو كان الجرب بالعدوى لامتنع أن يكون الأول جربا إذ لا بد أن يكون الأول جرب هذه الإبل بغير جرب ابتداء من غير أن يعديه غيره أما إن ذلك دخل البعير الذي دخل بينهما أو غيره قبله ؟ وإذا جاز أن يكون هذا الداء لحق الأول من غير عدوى وإنما هو من فعل الله فإنه لا يمتنع أن يكون ما شمل الإبل أيضا من الجرب من فعل الله فلا معنى لاعتقاد العدوى فالواجب أن يعتقد أن ذلك كله من عند الله تبارك وتعالى لا خالق سواه وإن جاز أن يفعله في بعض الأشخاص ابتداء وفي بعضها عند مجاورة الجرب.-والله أعلم-. وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه: إنه أذى فالمنع منه واجب وقد مر عمر بن الخطاب بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست. وإذا وجب بهذا وما أشبهه من الأحاديث أن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس لما في ذلك من الإذاية لهم والضرر بهم. وورد في المعجم الكبير للطبراني أ ن النبي صلى الله عليه وسلم أحل الثوم وأمر من أكله أن لا يخرج إلى المسجد حتى يذهب ريحه إنه أذى فلا يقرب من أكله المسجد فإذا كان النهي أن من أكل الثوم لا يقرب المسجد فأخرى وأولى من يحمل فيروس كورونا ألا يقرب المسجد حتى لا يؤذي وأن الصحيح لا يقرب الأماكن التي فيها أذى حتى لا يُؤذى والدين رحمة وليس محنة ومن مقاصده المحافظة على الصحة والنفس. وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بعلاج جميع الأمراض: المعدية وغير المعدية من جانبين: الجانب الأول: الوقاية منها قبل حدوثها ونقصد هاهنا بالوقاية تحصين أفراد الأمة بما يمنع انتشار الأمراض بينهم سواء كانت وراثية أو معدية. وتقع المسئولية في هذا على الإنسان نفسه بما يجب عليه من عدم التعرض للأسباب المسببة للمرض الذي يؤجدي إلى فشوي الأمراض المعدية والأوبئة كما تقع هذه المسئولية على الدولة بما يجب عليها من منع تعرض أفراد الأمة إلى الأمراض المعدية كفرض الوقاية الصحية. الجانب الثاني: علاج الأمراض بعد حدوثها وكما اهتم الإسلام بالوقاية من الأمراض اهتم بعلاجها بعد حدوثها وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لكل داء دواء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل . ولما سأله الأعراب قائلين: أنتداوى؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير الهرم . هذا في قوله أما في فعله فكان صلى الله عليه وسلم يتداوى وذلك فيما روته عائشة-رضي الله عنها-أنه كان يمرض في آخر عمره فتقدم عليه الوفود من كل ناحية فيصفون له الدواء وكنت أعالجها له. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص tبعد أن وصف له الدواء من عجوة المدينة - أن يذهب إلى الحارث بن كلده الثقفي ليصف له العلاج لكونه مفؤوداً. وإذا من مقاصد الشريعة حفظ النفس فوجب درء الأمراض المعدية من أسباب حفظ النفس الذي تقتضيه الضرورة الشرعية عملاً بأن قواعد الشريعة وأحكامها توجب نفي الضرر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار . وقوله صلى الله عليه وسلم: من ضار ضار الله به ومن شاق شق الله عليه . وإذا كان الأصل عدم جواز المعالجة للمريض إلا بإذنه أو إذن وليّه عند الحاجة ويستثنى من ذلك الحالات الخطرة التي لا يمكن فيها أخذ إذن المريض ولا وليّه وكذلك حالات الأمراض المعدية فلا بد من علاجها ولو بغير إذن المريض.مثل: الخرجات الجلدية - الحمى المالطية - تقرحات معدية - الإيدز - الزكام الحاد المؤدي إلى فناء البشر كهذا المرض الذي ظهر في العالم اليوم فيجب شرعا أخذ الاحتياط والإسراع بما ينفع والحظر كل ما من شأني يؤدي إلى استفحال الخطر.. وننبه إلى أمر هام في نظري وهو المغالاة في الشائعات وبث الخوف والرعب في نفوس الناس يجب على المسؤولين التنبيه إلى أن بث الفوضى وعدم الثقة وأن وسائل الإعلام هي للتربية والتوجيه يحب أن لا تبث الرعب وعليها أن تكثف الدروس التوجيهية في هذه الفترة الحرجة التي ظهر فيها هذا المرض والدعوة إلى التضرع إلى الله تعالى ليكشف عنا هذه الغمة ويشفي مرضانا ومرضى جميع الأمم إننا أمة الخير التي تنشد الخير للجميع. وأنبه-مرة أخرى-إلى أن للشائعات سموما قد سبق لي أن أصدرت فتوى في تحريمها وذلك لما لها من انعكاس سلبي على حياة الناس. يقول بعض العلماء: عند ظهور بعض الأمراض المعدية كالطاعون فإن من بين العشرة الأفراد الذين يموتون بسبب المرض ظاهرا أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف وعدة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة. وبشكل عام الاطمئنان و الاضطراب لهما دور مهم في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الإنسانية وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها.انتهى قوله. السؤال الثاني: هل يُغسّل من أصابه المرض كورونا؟ إن تغسيل من أصابه الله بهذا المرض المستجد الذي عمّ في العالم اليوم فإذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله كما هو الحال في الأمراض المعدية إذا لم يمكن تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى ففي هذه الأحوال كلها استثنى العلماء-رحمهم الله- هؤلاء من الأصل وقالوا: إنهم لا يُغسلون. السؤال الثالث: هل يجوز غلق المساجد؟ المساجد بيوت الله في الأرض تُقَام فيها الصلَوَات وتُؤَدَّى فيها شعائر الدِّين إلاّ أن الضرورة تدعو إلى غلقها نظرا لما ظهر من وباء سريع الانتشار ويحصد الأرواح فهنا فإن الشريعة تدعو الحاكم إلى غلقها حفاظا على الصحة والنفس وهو من مقاصد الشريعة لما تقدم بيانه. وأرجو من الله العلي القدير أن يرفع عن الناس هذا الوباء حتى لا يتعودوا تعطيل المساجد ويحرموا من فضل صلاة الجماعة التي تفضل عن صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. صحيح ما ذكرته أيها السائل أن ابن عبد البر قال: أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات. لكن هذا الذكر في الظروف العادية أما نحن فإننا في ظرف خاص نواجه وباء جارف يحصد الأرواح فلا بد من مواجهته بما يحفظها ويبعد الخطر وهذه بلاد المسلمين كلّها عمدت إلى هذا الإجراء الملتمس من روح الشريعة ولولا خوف الإطالة لذكرت كثيرا من الوقائع عبر التاريخ. توجيه هام جدا: إذا أغلقت المساجد في هذا الظرف الصعب وهنا أكرر إن إغلاقها واجب شرعي تفاديا للعدوى إلاّ أني أرى وقف الأذان على الإمام الراتب لا على المؤذن ليقيم الصلاة بنية الجماعة حتى لا تتعطل صلاة الجماعة وتبقى قائمة إذ أن الإمام الراتب إذا صلى بنية الجماعة لو وحده كتبت له فضل الجماعة ذكر هذا ابن ميارة في الدر الثمين والمورد المعين . وفي الختام لا يسعنا إلاّ أن نتجه إلى الله تعالى ضارعين تائبين داعين أن يرفع عنا هذا الوباء يا ر ب حُرِم عبادك المؤمنين من العمرة وقد يحرمون إن دام الوباء حتى من الحج وها نحن قد حرمنا من أداء الصلاة في بيوتك التي أمرت أن يرفع فيها اسمك وأمرت بتعميرها بأداء الصلاة فيها ففرج عنا ما نعانيه من هذه المحنة إنك قدير رحيم بعبادك فارحمنا يا أرحم الراحمين واجعل بيوتك عامرة بالأتقياء الطيبين. آمين.