بقلم: عبد الحليم قنديل* وباء _كورونا_ ليس يوم القيامة ولا نهاية التاريخ فيوم القيامة في علم الله وحده وأشراط الساعة لا يعلمها إلا هو أما _نهاية التاريخ_ فقصة بشرية وكانت نبوءة مضللة للأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما وعنوانا لكتابه الشهير قبل ما يزيد على الربع قرن ثم تراجع عنها فوكوياما نفسه الذي كان ظن أن القصة انتهت وأن سقوط الاتحاد السوفييتي وكتلته الاشتراكية كان مسك الختام وأن لا أحد بوسعه بعدها تحدي الطبعة الغربية الرأسمالية والليبرالية وأن العولمة الغربية هي الحل وأن _الأمركة_ كمرادف للعولمة هي القدر الأخير بعد نفاد فصول الصراع الإنساني. المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عبّرت سياسيا بطريقتها عن فزع _كورونا_ وقالت إنه أكبر تحد يواجهنا منذ الحرب العالمية الثانية وقد كانت ألمانيا نفسها مهدا للحرب الثانية وكان هتلر المستشار الأسبق لألمانيا هو الذي أشعل الشرارة الأولي للحرب التي سقط فيها نحو ستين مليون قتيل ودمرت فيها عواصم أوروبا الكبرى ولم يكتف الغرب في حربه بتدمير مدنه وأقطاره بل حطم شعوبا أخرى في شرق العالم وجنوبه كانت كلها من ضحايا استعمار ومطامع _حلفاء_ و_محور_ الحرب الثانية التي أنهكت المركز الأوروبي للسيطرة الغربية وسمحت لحركات التحرير الوطني بتحقيق انتصارات متوالية طوت عصر _سيادة الغرب_ الذي استمر قرونا منذ سقوط غرناطة واكتشاف الأمريكتين وافتتحت عصرا من _تحدي الغرب_ برزت فيه أدوار رموز من نوع ماو وسوكارنو ونهرو وجمال عبد الناصر وسلفادور الليندي حاصرهم المركز الأمريكي للسيطرة الغربية ونجح في إطفاء الأنوار في مناطق بينها عالمنا العربي المنكوب لكن قوة الدفع الهائلة لحركات التحرير ظلت تؤتي أكلها في معارك التنمية بعد التحرير وتواصل أشواط التحدي حتى بعد سقوط موسكو الشيوعية وتبشر بدخول العالم إلى مرحلة _تجاوز الغرب_ أي امتلاك قوته المادية والتكنولوجية ذاتها وإلى أن تفوقت المعجزة الصينية التي حققت في أقل من أربعة عقود ما حققه الغرب في خمسة قرون وبدت كقوة كاملة الأوصاف راحت تغير وجه العالم على نحو تدريجي فعاصف وتكتب التاريخ من جديد وتصوغ عالما أكثر اتزانا وإنسانية وتثبت تفوقها الباهر في محطات ليس آخرها حرب _كورونا_ التي تحول المشهد الأوروبي إلى أخطر مسارحها تماما كما كان عليه الأمر في الحرب العالمية الثانية. وفي المنازلة الكبرى بدت قوة الصين الطالعة عفية على نحو كاسح صحيح أن الصعود الياباني سبق الصعود الصيني وكان التقدم الياباني مقلقا للتفرد الأمريكي بقيادة اقتصاد العالم وكان عجز أمريكا التجاري في مواجهة اليابان ظاهرا في ثمانينيات القرن العشرين بما دفع المؤرخ الأمريكي من أصل بريطاني بول كينيدي إلى إطلاق تحذير أخير في كتابه الموسوم _نشوء وسقوط القوى العظمى_ الذي ركز فيه على اختلال التوازن بين البندقية ورغيف الخبز وتحول أمريكا من أكبر دائن إلى أكبر مدين في الدنيا كلها وتوقع أفول نجم القوة الأمريكية عالميا كما انحطاط الاتحاد السوفييتي والتدهور متصل باطراد فقد تزايد الإنفاق العسكري الأمريكي إلى ما يزيد على 750 مليار دولار سنويا اليوم وزاد عبء الدين الأمريكي إلى 22 تريليون دولار وزاد انحطاط العجز التجاري هذه المرة في مواجهة الصين التي تستحوذ وحدها على 35 من تجارة العالم وبدت الصين كقوة عالمية أولى وحجم اقتصادها اليوم أكبر من حجم اقتصاد أمريكا بمعيار تعادل القوى الشرائية ولدى الصين احتياطيات نقد أجنبي بأرقام فلكية تجاوزت حاجز الأربعة تريليونات دولار وصارت الصين أكبر مستثمر في ديون أمريكا عبر شراء سندات الخزانة الأمريكية والعجز الأمريكي في التبادل التجاري مع الصين بلغ حافة الأربعمئة مليار دولار سنويا وهو ما أصاب أمريكا بذعر جنوني دفع إدارة ترامب إلى العودة لسلاح الحماية الصناعية ومضاعفة الحواجز الجمركية والانسحاب من العولمة الاقتصادية والتجارية التي قادت أمريكا الحركة إليها تاريخيا وعلى ظن إمكان تحويل العولمة إلى _أمركة_ شاملة للعالم ومن دون تحسب لصعود الصين كقوة شاملة أي قوة اقتصاد وسلاح وتكنولوجيا نووية وفضائية. ثم إن الصين عالم بكامله وقوتها البشرية تفوق الغرب الأوروبي والأمريكي مجتمعا وقد صار معيار القوة البشرية المتعلمة المدربة حاسما في موازين العالم الجديد وفي أولوية اقتصاد المعرفة الزاحف ونجحت الصين في تطوير نظامها التعليمي وهو الأكبر في العالم بامتياز ويضم أكثر من 300 مليون شخص في مراحله المختلفة وهو مجاني تماما ثم إنه صار الأفضل في التصنيف الدولي وهو ما يفسر تطورات الصين المذهلة في عوالم التكنولوجيا وتطبيقاتها وبالذات في _الروبوتات_ التي لعبت دورا هائلا على مسارح الحرب ضد وباء _كورونا_ الذي هاجم الصين أولا وبضراوة مفزعة فاقت وقع هجمات هتلر الأولى في الحرب العالمية الثانية ثم كان النجاح السريع للصين وفي التاريخ الذي حددته القيادة الصينية فلم تعد ترد أنباء عن إصابات يومية جديدة في _ووهان_ مركز الوباء الأول ومصانعها الكبرى عادت للعمل بكامل الطاقة وبدت الدولة الصينية الأكثر تفوقا في المواجهة بسلطة مركزية راسخة تملك نصف الاقتصاد كملكية عامة وتخطط لنصفه الآخر المملوك للخواص وبتماسك فريد في النسيج القومي فالصين ذات العدد المقارب للمليار ونصف المليار نسمة 94 من سكانها من قومية واحدة هي _الهان_ وشعبها أبدى انضباطا حديديا في تنفيذ توجيهات العزل والحجر والتطهير والتعقيم والوقاية ومقدرة الصين الاقتصادية والإنشائية بدت واضحة وأقامت مستشفيات ضخمة على أرقى مستوى في أيام وحققت النسبة الأكبر عالميا في حالات التعافي من إصابات كورونا وقدمت تطبيقات تكنولوجية فاقت بكثير شطحات وخيالات صناع أفلام هوليوود وتحركت فيها روبوتات الصين كجيوش بكائنات عظيمة الذكاء وقامت بأعمال التطهير والتعقيم للشوارع والمباني وناطحات السحاب ومهمات الفحص واكتشاف المصابين وإدارة العمل في المستشفيات وعلى امتداد مدن كبرى أولها بالطبع مدينة _ووهان_ عاصمة مقاطعة _هوبي_ التي تضم نحو ستين مليون نسمة أي بحجم دولة أوروبية كبرى إضافة لتكنولوجيا _البيج داتا_ التي طورتها الصين ولا تملك دولة في العالم ما يضاهيها شمولا وفيها سجل بيانات كل فرد صيني بياناته الشخصية والصحية والاقتصادية والمكانية إضافة لبرنامج الكشف الصحي الذاتي الذي طورته شركات الصين التكنولوجية العظمى علاوة على تقديم تكنولوجيات لرجال الشرطة وكوادر الجيش الأكبر عددا في الدنيا كلها وعلى نحو تحولت معه الصين إلى مسرح خيال علمي بديع وصارت قبلة شفاء للحالمين بالنجاة ومدت يدها لأوروبا في محنتها الراهنة التي حولت مدنها الكبرى إلى مدن أشباح وقدمت لها ملايين الكمامات وأجهزة الكشف بالمجان كما قدمت بروتوكول العلاج علنا لبلاد الدنيا كلها وسبقت بإعلان تطوير لقاح وإجراء تجاربه السريرية وتستعد لإنتاج عقار _فافيبيرافير_ بمليارات العبوات وبيعه للعالم المتلهف بسعر التكلفة بينما تبدو إدارة ترامب الأمريكية في _حيص بيص_ وهي تواجه غزو الفيروس الآخذ في الانتشار بكثافة في مدن أمريكا بعد مدن أوروبا الحليفة المنكوبة مع انكشاف ضعف وترهل السياسات الصحية والمنشآت الطبية ومع قصور فادح في الإمكانيات المالية والتكنولوجية ومع محاولة ترامب شراء جهود شركة ألمانية كبرى متخصصة في إنتاج اللقاحات الفيروسية وبما دفع مسؤولا ألمانيا كبيرا للرد بالقول إن _ألمانيا ليست للبيع_ ثم تردي ترامب إلى ما هو أسوأ وبدا مثيرا لشفقة لا يستحقها حين أعلن مزهوا إمكانية استخدام دواء الملاريا في علاجات كورونا وهو الخبر الذي سبقت الصين لإعلانه وتعميمه. وباختصار لا تبدو _حرب كورونا_ في عزلة عن مصائر وصور العالم الجديد الزاحف فقد كانت للحرب العالمية الثانية نتائجها ورسمت صور العالم الذي أعقب نهاياتها سواء في مرحلة القطبين السوفييتي والأمريكي أو في مرحلة القطبية الأمريكية الأحادية القصيرة العمر بعد انهيارات موسكو الشيوعية لكن حقائق التحول في موازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا راحت تلقي بآثارها وظلالها وعبر ميادين حروب بالنار كان أظهرها ما جرى في سوريا مع إعادة تأهيل روسيا عسكريا ومع زحف القوة الصينية الصلبة والناعمة التي راحت تشكل في هدوء ملامح عالم جديد هزمت الصين فيه أمريكا لمرتين مرة في حرب العولمة الاقتصادية ومرة أخرى راهنة في الحرب ضد وباء كورونا الكوني وربما لن يعود العالم أبدا عند رحيل _كورونا_ إلى الذي كنا نعرفه.