مصنّفات عظيمة وإرث غزير ابن ماجه.. الإمام المحدّث هو أحد أئمة علم الحديث الكبار وراوي عظيم من رواته كما كان له العديد من المؤلفات القيمة في العلوم الشرعية وإن ضاع معظمها وبقي كتابه السنن هو أشهرها وأبقاها على الإطلاق. و في عام (209ه= 824م) استقبلت قزوين مولده إنه الإمام المحدث أبي عبد الله محمد بن يزيد الربعي المعروف بابن ماجه وكانت آنذاك حاضرة من حواضر العلم تموج بالحركة والنشاط العلمي وتزخر بحلقات العلماء والفقهاء شأنها في ذلك شأن المراكز العلمية الأخرى ذات الإشعاع الحضاري مثل: بغداد والكوفة والبصرة ومرو وأصفهان وكانت الدولة العباسية تعيش أزهى فتراتها قوة وحضارة وكان الخليفة المأمون هو رجل المرحلة ورائد النهضة ومفجر الطاقات. في هذا الجو العلمي عاش ابن ماجه حياته الأولى فحفظ القرآن الكريم وتردد على حلقات المحدثين التي امتلأت بها مساجد قزوين حتى حصّل قدرًا كبيرًا من الحديث ثم تطلع إلى الرحلة في طلب الحديث وكانت من تقاليد العصر التي التزمها كبار المحدثين لملاقاة الشيوخ استنادًا إلى نصوص الحديث التي تحث على طلب العلم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة وقد صدّر الإمام البخاري كتاب العلم في صحيحه بباب الخروج في طلب العلم وجاء في مقدمة الباب: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد وبلغ من أهمية الرحلة في طلب الحديث أن وضع فيها مؤلفات تضم الأصول والإرشادات التي على طالب العلم المرتحل أن يتتبعها ويلتزم بها. *في طلب علم الحديث ولم يشذ ابن ماجه عن هذا التقليد العلمي المتبع فخرج سنة (230ه = 844م) وهو في الثانية والعشرين من عمره في طلب الحديث ومشافهة الشيوخ والتلقي عليهم فرحل إلى خراسان والبصرة والكوفة وبغداد ودمشق ومكة والمدينة ومصر. ونظرًا لكثرة أسفاره ورحلاته فكان له شيوخ في كل قطر وكل مصر ذهب إليه فكان من شيوخه علي بن محمد الطنافسي الحافظ وقد أكثر عنه وإبراهيم بن المنذر الحزامي المُتوفَّى سنة ست وثلاثين ومائتين من الهجرة وهو تلميذ البخاري ومحمد بن عبد الله بن نمير وجبارة بن المغلس وهو من قدماء شيوخه وعبد الله بن معاوية وهشام بن عمار ومحمد بن رمح وداود بن رشيد وخلق كثير وقد ذكرهم في سننه وتأليفه. ثم بعد رحلة شاقة استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا عاد ابن ماجه إلى قزوين واستقر بها منصرفًا إلى التأليف والتصنيف ورواية الحديث بعد أن طارت شهرته وقصده الطلاب من كل مكان. ومن شيوخه إبراهيم بن المنذر تلميذ البخاري المتوفى سنة (236ه= 850م) والحافظ الحلواني أبو محمد حسن بن علي بن محمد الخلال والحافظ الزبير بن بطار وسلمة بن شبيب والحافظ يعقوب بن حميد وإسماعيل بن موسى الفزاري وحرملة بن يحيي وزهير بن حرب. وبعد رحلة شاقة استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا عاد ابن ماجه إلى قزوين واستقر بها منصرفًا إلى التأليف والتصنيف ورواية الحديث بعد أن طارت شهرته وقصده الطلاب من كل مكان من أمثال: إبراهيم بن دينار الجرشي وإسحاق بن محمد القزويني وسليمان بن يزيد القزويني وابن الحسن بن قطان وأبي بكر حامد الأبهري وغيرهم. *عمله بالتعليم وتلامذته لم يكن ليقتصر النشاط العلمي لابن ماجه على التأليف فقط بل تعداه إلى التعليم وإلقاء المحاضرات والدروس وكان أشهر من روى عنه وتتلمذ على يده علي بن سعيد بن عبد الله الغداني وإبراهيم بن دينار الجرشي الهمداني وأحمد بن إبراهيم القزويني جَدّ الحافظ أبي يعلى الخليلي وأبو الطيب أحمد بن روح المشعراني وإسحاق بن محمد القزويني وجعفر بن إدريس ومحمد بن عيسى الصفار وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القزويني الحافظ وغيرهم من مشاهير الرواة. *مؤلفات الإمام ابن ماجه: لم يخلد الزمان من كتبه غير كتابه (سنن ابن ماجه) أحد الصحاح الستة فقد ضاعت مصنفاته مع ما ضاع من ذخائر تراثنا العظيم فكان له تفسير للقرآن وصفه ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) بأنه تفسير حافل وله أيضًا كتاب في التاريخ أرَّخ فيه من عصر الصحابة حتى عصره وقال عنه ابن كثير بأنه تاريخ كامل . *منهج ابن ماجه في الحديث طبقت شهرة كتاب (سنن ابن ماجه) الآفاق وبه عُرف ابن ماجه واشتهر واحتل مكانته المعروفة بين كبار الحفاظ والمحدثين وهو من أَجَلِّ كتبه وأعظمها وأبقاها على الزمان وقد عُدَّ الكتاب رابع كتب السنن المعروفة وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومتمم للكتب الستة التي تشمل إلى ما سبق صحيح البخاري ومسلم وهي المراجع الأصول للسنة النبوية الشريفة وينابيعها. وكان منهج ابن ماجه في كتابه هذا هو أنه رتبه على كتب وأبواب حيث يشتمل على مقدمة وسبعة وثلاثين كتابًا وخمسمائة وألف باب تضم أربعة آلاف وثلاثمائة وواحدًا وأربعين حديثًا ومن هذه الأحاديث اثنان وثلاثة آلاف حديث اشترك معه في تخريجها أصحاب الكتب الخمسة وانفرد هو بتخريج تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف حديث وهي الزوائد على ما جاء في الكتب الخمسة من بينها ثمان وعشرون وأربعمائة حديثًا صحيح الإسناد وتسعة عشر ومائة حديثًا حسن الإسناد وهذا ما أشار إليه ابن حجر بقوله: إنه انفرد بأحاديث كثيرة صحيحة . وقد أحسن ابن ماجه وأجاد حينما بدأه بباب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق فيه الأحاديث الدالة على حجية السنة ووجوب اتباعها والعمل بها. *شروح سنن ابن ماجه: ولقيمة هذا الكتاب ومكانته فقد أولاه كبار الحفاظ والمحدثين عناية خاصة فراحوا يسهبون في شروحه ويضعون عليه من تعليقاتهم ومن ذلك: (شرح سنن ابن ماجه) للحافظ علاء الدين مغلطاي المُتوفَّى سنة اثنتين وستين وسبعمائة من الهجرة. (مصباح الزجاجة في شرح سنن ابن ماجه) للجلال الدين السيوطي المتوفَّى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة. (شرح سنن ابن ماجه) للمحدث محمد بن عبد الهادي السِّندي المتوفَّى سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف من الهجرة. وقد أفرد زوائد السنن العلامة المحدث شهاب الدين أحمد بن زين الدين البوصيري في كتاب وخرَّجها وتكلم على أسانيدها بما يليق بحالها من صحة وحسن وضعف. *قالوا عن الإمام ابن ماجه: نال ابن ماجه إعجاب معاصريه وثقتهم إذ كان معدودًا في كبار الأئمة وفحول المحدثين فقد قال عنه ابن خَلِّكان: كان إمامًا في الحديث عارفًا بعلومه وجميع ما يتعلق به . وقال الذهبي عنه: كان ابن ماجه حافظًا ناقدًا صادقًا واسع العلم . بعد عمر حافل بالعطاء في الحديث النبوي الشريف درايةً وروايةً دارسًا ومدرسًا ومؤلفًا تُوفِّي ابن ماجه (رحمه الله) سنة ثلاث وسبعين ومائتين من الهجرة.