بقلم: عمرو حمزاوي* عالميا لا نجاة لدعاة الديمقراطية من أزمة تراجع الجاذبية الفكرية والفاعلية الشعبية لمقولاتهم الكبرى كسيادة القانون وتداول السلطة وحقوق الإنسان ومواطنة المساواة الكاملة سوى بالبحث عن استجابات موضوعية للصعود الراهن للقوميات المغلقة وللنزوع الشعبوي والغوغائي إن في مجتمعات استقر تنظيمها السياسي على أسس تعددية أو في غيرها من المجتمعات التي تهيمن عليها حكومات سلطوية. ليس من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية على الديمقراطية أن يتنامى باطراد الوزن الانتخابي والنفوذ السياسي لقوى أقصى اليمين وأقصى اليسار في البلدان الأوروبية وأن يحدث ذلك من جهة في سياق عزوف شعبي واسع عن نخب الوسط الحاكمة (يمين الوسط ويسار الوسط) وعن وعود الرخاء والحرية والأمن التي اعتادت أن تقدمها ومن جهة أخرى في سياق شكوك عامة متزايدة بشأن نزاهة هذه النخب ومدى ابتعاد عناصرها عن إساءة استغلال المنصب العام وقابليتها للإنصات لمخاوف ومطالب الناس وقدرتها على تخصيص موارد المجتمعات بحيادية تعتبر بصالح الأغلبية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتقاوم هيمنة الفئات المجتمعية صاحبة مواقع الأفضلية الاقتصادية والبيروقراطيات النافذة. تتمايز قوى أقصى اليمين وأقصى اليسار لجهة توظيف الأولى للأفكار القومية المغلقة ومقولات كراهية الآخر والخوف من الغريب والعداء للأجانب (خاصة الضعفاء) في مقابل اعتماد الثانية على الأفكار الشعبوية إن الرافضة للعولمة الاقتصادية والتجارية والداعية لتطبيق سياسات حمائية أو تلك التي تطرح بدائل واهية ومتهافتة للتنظيم الرأسمالي إلا أن المجموعتين تلتقيان على الاستخدام الغوغائي للحظة الشك العام في نخب الوسط الحاكمة وتدفعان بعنف خطابي وسياسي نحو تغييرات متلاحقة وصادمة. وإذا كانت نتائج الاستفتاء الشعبي في بريطانيا التي جاءت بأغلبية تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي تمثل التغيير الصادم الأكثر حضورا اليوم فإن النجاحات الانتخابية الكبيرة والمتواصلة لقوى أقصى اليمين وأقصى اليسار على المستويين الوطني والمحلي في عديد المجتمعات الأوروبية وكذلك السياسات العنيفة التي تطبقها (أو تضطر إلى تطبيقها) حكومات الوسط في مجالي الهجرة وتعميم الرقابة الأمنية على المجتمع تمثل خروجا عن اعتيادية العقود الماضية في أوروبا. *أزمة تراجع الجاذبية ليس من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية على الديمقراطية أن يتصدر المشهد الانتخابي الراهن في الولاياتالمتحدةالأمريكية مجددا دونالد ترامب وأن يصبح خطاب الكراهية والتطرف والجهل الذي يروج له قبلة أقصى اليمين ووجهة شرائح واسعة في الطبقات الوسطى ومحدودة الدخل. يسيطر خطاب ترامب بكراهيته للأجانب وتطرفه بشأن قضايا كالإرهاب واللجوء وبعض الحريات الشخصية وجهله (بل وأكاذيبه) فيما خص السياسات الحمائية التي يقترح تطبيقها على الفضاء العام دون منازع ويمكنه من استدعاء مشاعر الخوف من الحاضر والقلق على المستقبل المنتشرة بين الشرائح الوسطى ومحدودة الدخل وتوظيفها انتخابيا بغوغائية منقطعة النظير ويضمن له في التحليل الأخير الترشح في الانتخابات الرئاسية 2024 وحضورا طويل المدى لخطابه في السياسة الأمريكية. يستغل ترامب لحظة الشك العام في نخب الوسط (إن المنتمية للحزب الديمقراطي أو الجمهوري) تماما مثلما يوظف تجدد دماء الأفكار القومية المغلقة وتموضعها مجتمعيا في سياقي العداء للمهاجرين غير الشرعيين والعداء للمسلمين لإحداث تغيير صادم في المشهد الانتخابي بجعل الكراهية والتطرف والجهل والعنف مكونات رئيسية وليست استثنائية له (الهجوم على الكونغرس نموذجا) وإضفاء شيء من العلنية والقبول الشعبي على العداء للمقولات الكبرى للديمقراطية وتسخيف قيم الحرية والمساواة. يحقق مؤيدو ترامب نجاحاتهم الانتخابية ويقترب هو من الترشح مجددا يندفع مواطنون أمريكيون مارسوا تقليديا العزوف عن السياسة إلى المشاركة في دعمه ويحملون مفردات الكراهية والتطرف والجهل إلى واجهة الصراع المجتمعي تتماثل غوغائية خطاب ترامب صاحب الريادة الراهنة لأقصى اليمين مع النزوع الشعبوي لأقصى اليسار في الولاياتالمتحدة ومع بنية الخطاب الناقد لنخب الوسط الحاكمة وللمصالح الاقتصادية والمالية والبيروقراطية النافذة وللرأسمالية العالمية الذي يعبر عنه في الحزب الديمقراطي برني ساندرز وإلهان عمر وتتبناه شرائح مجتمعية أخرى أبرزها صغار السن والشباب . هذه لحظة عالمية لإعادة النظر في أسباب تراجع الفكرة الديمقراطية والعوامل المؤدية لهيمنة بدائلها المتهافتة أخلاقيا وإنسانيا وسياسيا على مجتمعات تتفاوت في كل شيء وتشترك في معاناة أغلبياتها من الانجراف إلى الأفكار القومية المغلقة والخليط المقلق من الشعبوية والغوغائية.