بقلم: عز الدين طيطي في عصر يسود فيه الابتكار برز الذكاء الاصطناعي (AI) باعتباره القوة الرئيسية وراء إعادة تشكيل الكثير من المجالات ولم يكن المجال الاقتصادي استثناء حيث يمتد تأثير الذكاء الاصطناعي عميقا إلى قلب الأعمال المصرفية والمالية والمحاسبية ويعيد تعريف الطريقة التي تدير بها المؤسسات المالية أموالنا وتستثمرها. يستكشف هذا المقال كيف تساهم الثورة الرقمية متمثلةً في الذكاء الاصطناعي في تشكيل المشهد المالي العالمي حيث سيستعرض تطبيقاته الاقتصادية ويشرح آثاره متعددة الأوجه ويكشف التفاعل المثير للاهتمام بين الابتكار والتحديات في عالم المال. يعالج الذكاء الاصطناعي مجموعات ضخمة من البيانات ويُنَفّذ خوارزميات معقدة عليها في وقت قصير هذا بدوره ألهم البنوك والمؤسسات المالية الرائدة دمج الذكاء الاصطناعي في أنظمتها وعملياتها من أجل زيادة الكفاءة وتعزيز عملية صنع القرار وتحقيق الفائدة للعملاء في نهاية المطاف. ووفقا لدراسة أجرتها شركة ديلويت فإن ما يقرب من 60 من المؤسسات المالية العالمية تطبق بالفعل الذكاء الاصطناعي إلى حد ما والبقية تلحق بالركب بسرعة. أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي هو تعزيز تجربة العملاء في مجال الخدمات المصرفية. تقوم روبوتات الدردشة (Chatbots) المدعومة بخوارزميات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) بالتعامل مع استفسارات العملاء الروتينية ما يسمح للموظفين البشريين بالتركيز على المهام الأكثر تعقيدا. يوفر هؤلاء المساعدون المعتمدون على الذكاء الاصطناعي استجابات فورية ما يعزز رضا العملاء ويقلل أوقات الاستجابة. في الواقع أفاد بنك جي بي مورغان تشيس أن برنامج الدردشة الآلي الخاص به المدعو كوين قد قلل الوقت المستغرق لمراجعة مستندات القروض من 360 ألف ساعة إلى مجرد ثوان بالإضافة إلى ذلك تلعب خوارزميات الذكاء الاصطناعي دورا أساسيا في اكتشاف الاحتيال المالي ومنعه من خلال تحليل أنماط العمليات المالية للمستخدمين تُحدِد الخوارزميات العمليات أو المستخدمين الشاذين عن الأنماط الطبيعية بسرعة البرق وتصنفهم كتهديدات محتملة وتقوم بحماية أصول العملاء. ووفقاً للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ساعدت أنظمة الذكاء الاصطناعي في تقليل الخسائر المرتبطة بالاحتيال في القطاع المصرفي بنسبة 25 في العامين الماضيين. كما أدى الذكاء الاصطناعي إلى دَمَقْرَطَة الاستثمار ما جعله في متناول شريحة أوسع من المستثمرين. تستفيد شركات الاستثمار (الروبوتي) الآلي من مثل ويلثفرونت و بيترمنت الأمريكيتين من الذكاء الاصطناعي لإنشاء وإدارة محافظ استثمارية شخصية مصممة خصيصا للأهداف المالية للفرد وقدرته على تحمل المخاطر. وهذا يلغي الحاجة إلى مستشارين ماليين بشريين مُكلِفين ويخفض رسوم الاستثمار على كل من الشركات والعملاء ما يجعل الاستثمار متاحا لنطاق أوسع من العملاء من مختلف مستويات الدخل. ويتوقع تقرير صادر عن ستاتستا أن تصل الأصول الاستثمارية الخاضعة للاستشارة وللإدارة الروبوتية إلى 3.7 تريليون دولار بحلول عام 2025 وهو دليل على الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في مجال الاستثمار والتمويل. *أخلاقيات الذكاء الاصطناعي يتميز الذكاء الاصطناعي بقدرته التنبؤية التي تستغلها البنوك لتحليل البيانات المالية التاريخية للعملاء طالبي القروض وذلك لعمل تنبؤات دقيقة لقدرة العميل على سداد القرض وبالتالي حماية العملاء من خطر التعثر المالي وحماية البنك من الخسارة. تقوم الشركات أيضا باستعمال التقنية نفسها للمساعدة في إعداد الميزانية والتخطيط المالي وإدارة المخاطر. على سبيل المثال وجد استطلاع سي أف اوه سجنالز الذي أجرته شركة ديلويت أن 70 من المديرين الماليين يستخدمون الآن التحليلات التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تخطيطهم المالي. على الرغم من فوائد الذكاء الاصطناعي آنفة الذكر إلا أنه يحمل وجها آخر متمثلا بالمخاطر والتحديات الناتجة عن إدماجه في القطاع المالي منها تقليص الوظائف حيث قد تؤدي أتمتة المهام الروتينية في الأعمال المصرفية والمحاسبية إلى تقليل او التخلص من العمالة البشرية. ويتوقع تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي أن الذكاء الاصطناعي والأتمتة يمكن أن يؤديا إلى فقدان 5 ملايين وظيفة عبر مختلف القطاعات بحلول عام 2025. أمن وخصوصية البيانات يمثل تحديا آخر لأن الكميات الهائلة من البيانات المالية الحساسة التي تعالجها أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون عرضة للانتهاك أو البيع في السوق السوداء أو الهجمات الإلكترونية التي قد تؤدي بدورها إلى تداعيات اقتصادية خطيرة وبالحديث عن البيانات فإنها قد تكون متحيزة وغير عادلة. وإلى الآن خوارزميات الذكاء الاصطناعي غير محصنة ضد هذه التحيزات وبالتالي قد يؤدي استعمالها إلى نتائج تمييزية في قرارات الإقراض والاستثمار. علماً أن تنظيم استعمال هذه الخوارزميات يشكل تحديا آخر لأن التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي قد تجاوز الأطر التنظيمية وجعل من الصعب على الأخيرة مواكبة الأولى. *الطريق إلى الأمام مع استمرار الذكاء الاصطناعي في التغلغل في المشهد المالي فمن الضروري تحقيق التوازن بين جني فوائده وتخفيف مخاطره. يحتاج صناع السياسات والجهات التنظيمية إلى التعاون مع أصحاب المصلحة في القطاع المالي لوضع مبادئ توجيهية واضحة لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي والشفافية وحماية البيانات. علاوة على ذلك ينبغي للمؤسسات المالية أن تستثمر في تحسين مهارات القوى العاملة لديها للتكيف مع الطبيعة المتغيرة للوظائف في الاقتصاد القائم على الذكاء الاصطناعي. أملاً في أن يؤدي تكامل الخبرة البشرية مع قدرات الذكاء الاصطناعي إلى تقديم خدمات مالية أكثر كفاءة ومسؤولية. في الختام لا شك في أن مستقبل التمويل سيكون رقمياً ونواته هو الذكاء الاصطناعي حيث سيلعب دوراً في الأعمال المصرفية والمالية والمحاسبية. ولا يمكن إنكار تأثير الذكاء الاصطناعي الإيجابي في الكفاءة وإمكانية الوصول والابتكار. ومع ذلك فإنه يطرح أيضا تحديات تتعلق بتقليل الوظائف وخصوصية البيانات والعدالة. إن تحقيق التوازن الصحيح وتسخير قوة الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول هو المفتاح لضمان استمرار الاقتصاد الرقمي في الازدهار وإفادة المجتمع ككل بجميع طبقاته.