استحق الإمام البخاري عن جدارة ومقدرة لقب حبر الإسلام، فإسهاماته في خدمة الدين أجلُّ من أن تحصى، فقد اجتهد في الدفاع عن السنة النبوية الشريفة ونشرها، وكان موسوعيا في علمه، متعددا في مصنفاته، وأقر العلماء بإمامته وسبقه وريادته في الحديث وعلومه، وقاوم أهل الريب والبدع والمفاسد وناله الأذى وقدحوا في مكانته وذموا في علمه وطاردوه وشردوه حتى مات كسيرَ النفس محطم الفؤاد. ولد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، الملقب ب «حبر الإسلام»، في الرابع من شوال سنة 194 ه، وينتهي نسبه إلى المغيرة، مولى لليمان البخاري، والي بخارى فانتسب إليه بعد إسلامه، وتوفي والده وهو صغير فنشأ يتيما، وتعهدته أمه بالرعاية والتعليم، ودفعته إلى العلم وحببته فيه، وبدا رحلته في طلب العلم بمسقط رأسه بخارى، بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، وظهرت عليه علامات النبوغ والنجابة، ووهب الله سبحانه وتعالى له ذاكرة قوية تفوق بها على أقرانه، ومالت نفسُه إلى علم الحديث. حلاوة الإيمان وجد الإمام البخاري حلاوة الحديث في قلبه، فأقبل عليه محبا، ومر على شيوخه ليأخذ عنهم الحديث، وسمع من الجعفي المسندي ومحمد بن سلام البيكندي، ولما بلغ ستة عشر عاما حفظ أحاديث ابن المبارك، ووكيع، وكتبَ الأئمة المحدّثين حتى بلغ محفوظه آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلاما، ورحل طلبا للحديث الشريف إلى عدة بلدان، وسافر إلى بلخ وسمع هناك من مكبن بن إبراهيم وهو من كبار شيوخه، وانتقل إلى مروْ وسمع من عبدان بن عثمان، وعلي بن الحسن، ورحل إلى نيسابور وسمع من يحيى بن يحيى وجماعة من العلماء، ثم انتقل إلى الحجاز وأقام فيها مدة وسمع هناك من أبي عبد الرحمن المقرئ وخلاد بن يحيى وحسان بن حسان البصري وغيرهم. وأكمل رحلته إلى بغداد وخراسان ومصر والشام وسمع من أبي اليمان، وآدم بن أبي إياس، وعلي بن عياش، وبشر بن شعيب، وأبي المغيرة عبد القدوس وآخرين. وأشار إلى أنه كان لا يسمع بشيخ في الحديث إلا رحل إليه وسأل عنه وأخذ عنه علمه، حتى بلغ عددُ شيوخه ما يزيد على ألف شيخ منهم الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، وعالم خراسان إسحاق بن راهوية الحنظلي وغيرهم من أهل العلم، وتصدر للتدريس وهو ابن سبع عشرة سنة، ولما بلغ سن الثامنة عشر صنف كتاب «قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم». وكان البخاري حسن الأخلاق شديد التقوى والورع والشجاعة راغبا في الآخرة مُعرضا عن الدنيا، شديد الحرص على إتِّباع السنة، واشتهر بالزهد والكرم، يعطي عطاءً واسعا، ويتصدق على المحتاجين من أهل الحديث ليُغنيهم عن السؤال، وكان قليل الأكل لا ينام من الليل إلا أقله، مُجدًّا في تحصيل العلم وتأليف الكتب فيه، يقوم من الليل ثماني عشرة مرة أو أكثر، يسرج المصباح ويتذكر الأحاديث فيكتبها ويدقق البعض الآخر. اختبار ويروى أن علماء بغداد أرادوا اختبار حفظه وذكائه وإتقانه فجاء أصحاب الحديث بمئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ودفعوها إلى عشرة رجال إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا الاجتماع بإلقاء هذه الأحاديث المقلوبة على البخاري، فلما اجتمعوا كلهم مع حشدٍ من الناس انتدب إليه رجلٌ من العشرة فسأله عن حديث فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه حديثا بعد آخر حتى فرغ من عشرته، وهكذا حتى فرغوا من الأحاديث المئة المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على «لا أعرفه»، فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، وهكذا إلى آخر الأحاديث المئة فردَّ كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، فأقر له الناسُ بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. وتتلمذ على يديه عددٌ من التلاميذ النابهين الذين صاروا أعلاما بعد ذلك منهم الإمام مسلم بن الحجاج صاحب «صحيح مسلم»، والإمام أبو عيسى الترمذي صاحب «السنن» المعروفة، وخلق كثير يعسر عدُّهم. وأثنى عليه العلماء واقروا بإمامته وريادته، وقال عنه الإمام الترمذي:» لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أحدا أعلم من محمد بن إسماعيل»، وذكر الحسين بن محمد السمرقندي انه مخصوص بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس؛ كل شغله كان في العلم»، وقال عنه أبو إسحاق السرماري:»من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه فلينظر إلى محمد بن إسماعيل». وتعرض الإمام البخاري لمحن قاسية، فقد جلبت له الشهرة الواسعة التي بلغها والمكانة العالية التي حققها الكثير من المتاعب مع الأقران والمتنافسين، الذين أعماهم وأضلهم الحسد فشنعوا عليه وأثاروا حوله الإشاعات بأنه يقول ب"خلق القرآن"، وأسهموا في مطاردته وتشريده، إلى أن مات مهموماً حزيناً. * استحق الإمام البخاري عن جدارة ومقدرة لقب حبر الإسلام، فإسهاماته في خدمة الدين أجلُّ من أن تحصى، فقد اجتهد في الدفاع عن السنة النبوية الشريفة ونشرها، وكان موسوعيا في علمه، متعددا في مصنفاته، وأقر العلماء بإمامته وسبقه وريادته في الحديث وعلومه، وقاوم أهل الريب والبدع والمفاسد وناله الأذى وقدحوا في مكانته وذموا في علمه وطاردوه وشردوه حتى مات كسيرَ النفس محطم الفؤاد. * كان البخاري حسن الأخلاق شديد التقوى والورع والشجاعة راغبا في الآخرة مُعرضا عن الدنيا، شديد الحرص على إتِّباع السنة، واشتهر بالزهد والكرم، يعطي عطاءً واسعا، ويتصدق على المحتاجين من أهل الحديث ليُغنيهم عن السؤال، وكان قليل الأكل لا ينام من الليل إلا أقله، مُجدًّا في تحصيل العلم وتأليف الكتب فيه، يقوم من الليل ثماني عشرة مرة أو أكثر، يسرج المصباح ويتذكر الأحاديث فيكتبها ويدقق البعض الآخر.