جاء الإنسان إلى الحياة يحمل عددا من الإمكانات بالقوّة وبالفعل، يفعل وينفعل في ذاته وفي العالم الذي يعيش فيه، منتصرا تارة ومنكسرا تارة أخرى، ومظاهر الفعل والانفعال شتى تبدأ من الفرد في تعاطيه مع أناه ومع العالم الخارجي، ويعرفها الاجتماع الإنساني بمختلف أشكاله، وتتجلى في صور كثيرة ومتنوعة من النشاطات والعلاقات والنتائج، تتوزع على مسلكين، أحدهما اقترن بالفطرة السليمة وبسائر القيّم الإنسانية العليا من حقّ وعدل وجمال وحرية ومحبة وشجاعة وغيرها، أما المسلك الثاني فارتبط بكل ما لا يقبل الفطرة السليمة، ويتجه فيما يسيء إلى حياة الإنسان ويهدمها، ويصرفها عمّا وُجدت لأجله ويشمل سائر الرذائل والمنكرات والشرور التي تبعث على زرع بذور الفتنة في صورها المختلفة وتذكي فتيلها فكرا أو دينا أو ثقافة أو سياسة أو غيرها، وما أكثر دواعي الفتنة وأسباب إضرام نيرانها بسرعة غير متوقعة وبظهور مفاجئ. الثورة إرادة جامحة توّاقة إلى الاكتمال والإنجاز والتحقق، لذلك تتحلى بمكارم الأخلاق، ولكونها حراكا كونيا فهي تلبس دوما الفضائل وتجعلها شعارات ومبادئ لها وفي مطالبها ونتائجها المنشودة، ترتبط الثورة بالحق والصدق والعدل والحرية والمساواة والنبل والشرف والإباء والشجاعة والبطولة والمجد والسؤدد وغير ذلك من المحامد لدى الفرد والجماعة معا، ولكونها ضرورة وحتمية تاريخية فهي تتشبّه بكل ثورة ناجحة سابقة أو معاصرة لها صنعت الأمجاد والحريات والبطولات تستلهم منها العبر وقوّة العزم على الدوام والاستمرار حتى الانتصار. تعكس إستراتيجية الثورة منذ ثار أول إنسان في الوجود حتى الآن إرادة الإنسان في الحياة، وحياة الإنسان ليست في مستوى المخلوقات الأخرى التي تعيش معه، فإرادة الحياة الإنسانية مقرونة بدور الإنسان وبرسالته في الحياة وهي خلافة الله على الأرض، رسالة على أشرف حال وأمانة في أعظم درجة ودور في أرقى مستوى، لذا فكل ثورة تنشد الأفضل وتطلب الأرقى وتسمو وتترفع عن كل ما هو دنيء في مبادئها وقيمها ومطالبها، فتواجه مصاعب وتحدّيات جمّة تعكس هذه المواجهة الصراع الجدلي الكوني بين الخير والشر في الإنسان، وتنتصر في النهاية قيّم الخير العليا على منابع الشرّ السفلى لأنّ الخير حقّ وصدق والحقّ يُعلى ولا يُعلى عليه، فالحق اسم من أسماء الله وصفاته وأفعاله، والحق هو الله فوق كل الموجودات. سنن الكون والحياة كثيرة، لولاها لاختل نظام الكون ولفسدت الحياة، والثورة فعل إنساني من سنن الكون ومن حتميات التاريخ اهتدى إليه الإنسان بحكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء لضمان النظام والعدل والتوازن وردّ الأمور إلى نصابها في نفس الفرد ووجوده وفي كيان المجتمع وفي الإنسانية جمعاء وفي الكون ككل، فالثورة بحق هبة من الله تعالى تردّ الإنسان إلى فطرته السليمة التي فطره الله عليها لا على غيرها في العقيدة والشرع والأخلاق والآداب وفي عمارة الأرض عامة. ثورة الجزائر نهضة وتحضر الإنسان في كل مرحلة من مراحل التاريخ وفي الحاضر وفي المستقبل هو محرك أيّة انطلاقة نحو التغيير صوب التقدم والازدهار أو في اتجاه التخلف والانحطاط، الأمر الذي يدفع إلى كشف مواهب وطاقات الإنسان وقدراته المودعة فيه بالطبيعة، والحرص على استثمارها والارتقاء بها وتطويرها لضمان قوّة الفكر وقوّة الأداء والممارسة، تحقيقا لمردود متميّز في كافة مجالات الحياة، يعكس درجة الرقي الفكري والثقافي عامة، كما يعكس درجة الرقي التي بلغتها سيطرة الإنسان على محيطه الطبيعي توظيفا واستغلالا وتسخيرا، وعلى مجتمعه تنظيما وتوجيها وتقنينا، وسبيل ذلك بناء الإنسان وإعداده لإيجاد كفاءات تضطلع بتحريك التاريخ وبالاستنهاض الفكري والثقافي والاجتماعي والحضاري. كل نهضة عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، نهضة فكرية ثقافية أو صناعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثورية سلمية أو دموية، هي من إنتاج كفاءات ذات وعي بلغ درجة من النمو والنضج بحيث لا يمكنه أن يعود إلى الخلف، وهو حال النهضة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وحال الثورات التحررية في الوطن العربي الحديث، ومن أبرزها الثورة التحريرية الجزائرية، التي صنعت ملحمة تاريخية خالدة، بالقياس إلى ما صنعته من أمجاد وبطولات، وبالقياس إلى إمكاناتها المحدودة، وإلى قوى الغدر والإجرام والاستعمار التي تكالبت عليها، سلبا لأراضيها ونهبا لثرواتها ومسخا لهويتها وتاريخها وانتمائها الحضاري، وتشويها لدينها ولغتها وإذلالا لأبنائها. وبما أنّ الإنسان وحده هو القوّة الوحيدة، التي إذا استثمرت أفضل استثمار تصبح هي الآلية القادرة على صنع المعجزة، ذلك أنّ الإنسان الجزائري الذي يملك الإيمان بالله وحبّه لوطنه وأرضه وعرضه ويملك من المعرفة والأخلاق والآداب الكثير، وبتوجهاته السياسية والوطنية، وبنشأته على حب الله والوطن والدين الإسلامي واللّغة العربية -لغة القرآن الكريم- وحبّه للحرية والكرامة والعزّة، بغضه للعبودية والاستعمار ومقته للذل والهوان، نشأة حافظت عليها الزوايا والكتاتيب ودور التربية والتعليم المنتشرة في الجبال والقرى والمدن وفي كل أنحاء الأرض الجزائرية، وقبل ذلك حافظت عليها الأسرة الجزائرية التي لم تتخل البتة عن مبادئها وقيمها الجزائرية والعربية والإسلامية والإنسانية، هو ما جعل الشعب الجزائري يلتفّ حول ثواره وثورته ويهزم أكبر قوّة عسكرية استعمارية مدعومة بقوّة الحلف الأطلسي. استطاع الإنسان الجزائري -وهو يرزح تحت نير الاستعمار والاستدمار والاستحمار- بكفاءاته الدينية الإيمانية والفكرية والسياسية والتنظيمية أن يفرض إرادته الحرّة المستقلة في الواقع وفي الحياة عامة، وفي مواجهة الاستعمار وفي مواجهة أعداء استقلال الجزائر في الداخل والخارج، واستطاع أن يذكي فتيل حرب بين طرفين ليس بينهما تكافؤ، طرف مظلوم مقهور مغلوب على أمره، يملك وسائل دفاع بدائية محدودة وضعيفة، لكنه قويّ العزيمة والإرادة والصبر والتحمّل، قويّ الإيمان بقضيته العادلة شديد التمسك بها، توّاق للحرية والاستقلال ورد السيادة المسلوبة، وطرف ظالم قاهر مستعمر مستبد، استعمل كل أشكال القمع وصنوف الاستبداد وأنواع الظلم المادي والمعنوي، من تشريد وتجويع وتعذيب وتقتيل مع تفنن في أساليب القتل والتنكيل بالجثث وامتهان الكرامة بخدش الحياء والإخلال بالقيّم الخلقية والدينية باستعمال كل الأساليب المتاحة في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد وفي غيره، ارتكب جرائم يندى لها جبين البشرية منذ عرفت الحياة والحياء حتى الآن، أمام قوّة الجلاّد المادية في السلاح والعدد وانهزامه المعنوي، وأمام ضعف الضحية المادي في العدّة والعتاد وقوّتها المعنوية والروحية منقطعة النظير لأنّها قوّة مستمدة أصلا وأساسا من قوّة الله عزّ وجلّ، هزمت الضحية الجلاّد شرّ هزيمة. سنن كونية وضرورات حضارية إنّ الحكمة من انتصار الثورة الجزائرية المباركة المظفرة على الجيش الفرنسي الاستعماري المجرم وعلى الحلف الأطلسي المدجج بقوّة الحديد والنار وبالعملاء والممالئين في داخل الجزائر وخارجها تكمن في ارتباط الهبّة الثورية الشعبية الجزائرية في منطلقها وفي مسارها وفي أهدافها بقيّم ودلالات تمثل سننا كونية وضرورات حضارية نهضوية كما تُشكّل حتميات تاريخية، وهي سنن ثابتة في الثقافة العربية الممتدة في الماضي البعيد وراسخة في الشعور الديني الإسلامي العميق العامي والنخبوي، وأبرز هذه الدلالات والمعاني معنى الحرية وقيمة العدل ودلالة الحق وغيرها من المعاني النبيلة والمثل العليا مثل الخير والجمال والمحبة والمساواة والتسامح والتعاون والتضامن والحوار وغيره، وهي دلالات ومعاني قامت عليها كل نهضة في اتجاه التقدم والرقي والازدهار، وكل حضارة عرفها تاريخ الإنسان، وكل ثورة في وجه الظلم والفساد والاستبداد، مسعاها الحق والعدل والحرية، فالثورة في وجه الفساد في الأرض وفي الحياة ولفرض العدل والخير للجميع تمثل قمّة الحضارة وأوجها، والثورة الجزائرية في منطلقها وفي مساراتها وفي مبتغاها ومنتهاها بلغت قمّة النهضة وأوج التحضر، فصارت أنموذجا يُقتدى به في الآفاق. إنّ صبغة الله في الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحول توجُهُه الطبيعي الفطري نحو الخير ونفوره الفطري الطبيعي من الشر وفي هذا تكمن الإيجابية كفطرة تقوم في الأساس على الخير والحق والعدل وكل ما من شأنه يصب في هذه المثل فكرا وعملا ومقاصد، والإسلام دين ودولة، إيجابياته فطرية في العبادة والمعاملة، في السياسة والأخلاق، في الدين والدنيا تقتضيها الحياة ويتطلبها التوازن المطلوب في الحياة، حيث لا قوامة للوجود الإنساني في الحياة في غياب الضروريات من أمن وغذاء وإيواء وكساء، ولا يستقر التواصل بين العبد وخالقه في غياب استقرار الوجود الإنساني، فالقوامة الإيمانية التعبدية تشترط القوامة الوجودية الإنسانية، والقوامة الوجودية الإنسانية تشترط الحركة الفكرية بحثا وعلما وثقافة والحركة المادية تغييرا وإنتاجا وصناعة، كل هذا في إطار الحراك الإنساني الفردي والاجتماعي نحو الحضارة والاستئناف الحضاري بعيدا عن السكون والضعف والتخلف والانحطاط وهي مظاهر السلبية التي تتنافى مع الإيجابية الإسلامية في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب وفي سائر جوانب الحياة، ولماّ كان الحراك الاستعماري الفرنسي على أرض الجزائر وفي حقّ شعبها منذ الاحتلال حتى الاستقلال مدمرا للعقول والحقول، عابثا بحقوق الناس في الحرية والكرامة والعدالة والتنمية، يكيل بمكيالين، غير آبه بأحداث التاريخ ولا متعظ بعبر الماضي، ضاربا سنن الكون في الإنسان الفرد والمجتمع والبشرية جمعاء عرض الحائط، لكنّ الفطرة أبت إلاّ أن تردّ الحقّ لأهله بانتصار ثورة الضعفاء على قوى السوء والشر والغدر والخيانة. العدل ضرورة طبيعية إذا كانت الحياة الإنسانية في صورتيها الفردية والاجتماعية لا تستقيم أمنا واستقرارا ورقيا وازدهارا إلا بالعدل الذي هو أساس الوجود البشري ذاته، وما دام الوجود البشري في جانب منه روحانيا أخلاقيا فالعدل قيمة خلقية في ذاته مطلوب لذاته لا لغيره فهو بهذه الدلالة قيمة خلقية عليا سمحة ليس مرغوبا فيها لإيجابيتها ونفعيتها المادية الآنية وإنما مرغوب فيها لخيريتها في ذاتها من دون إهمال العدل المادي، ولما يبلغ التعاطي الإنساني مع القيم الخلقية العليا هذه المرتبة فيضطلع الأنا الأخلاقي بمهام سوق الإرادة إلى تفضيل هذه القيّم على غيرها، متحديا تحدّيات اللاأخلاقية بمختلف صورها ومحتوياتها التي كثيرا ما تطغى ويتسع مجالها فيكون فيها الإنسان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، ويغيب التفرد البشري وينمحي التفضيل الإلهي له ولم يعد مكرّما، فتسقط قيّم الحق والعدل والخير وتطغى الأنانية ويسيطر الشرّ والمكر والجور وكل أفعال السوء التي اتّسم بها التواجد الفرنسي بالجزائر من احتلال الأرض وانتهاك العرض ونهب المال والثروة وتشويه التاريخ والماضي وأهلاك الحرث والنسل وقتل الأبرياء كبار وصغار وعزل لغة العرب وثقافة الإسلام واعتدت على القرآن، لكن هذا كله زاد في إصرار الجزائر جغرافيا وتاريخا، شعبا وأمة، نهضة وحضارة، ثورة مجيدة مباركة، على العمل والنضال والكفاح في اتجاهات عدّة وبوسائل عدّة وبأساليب عدّة، فكان للجزائر أن استردت ما أرادته بالقوّة لكونه أُخذ بالقوّة. يتضح مما سبق أن العدل ضرورة طبيعية على مستوى الطبيعة الخارجية والكون إجمالا، وفي الإنسان على المستوى البيولوجي وعلى المستوى الفكري وعلى المستوى السيكولوجي، هذه الضرورة تفرض التوازن الذي هو شرط استمرار الكون والطبيعة والإنسان أمام الاختلال الذي كثيرا ما يؤثر في الحياة وتأثيره وُجد لضمان التوازن الكوني والطبيعي والإنساني، ففي صراع الأضداد وفي الجدل والتناقض ينتج ما يحرك الكون نحو التوازن والاستقامة وما يدفع الإنسان نحو الاضطلاع بالقوامة والخلافة، فالأزمة تلد الهمة، والموت يذكر بالحياة، والاستبداد يصنع الأحرار، والجهل يدفع إلى رفع التحدي بالعلم والبحث والإبداع، والظلم يُقهر بالتصدي له وعيا وثقافة وسلوكا، أي باتخاذ كل ما يسمح بترسيخ قيم العدل وغرسها في النفوس والبحث عنها في السلوك في مختلف مستوياته، لأن العدل لا يقف عند فردية البشر بل أكثر ما هو مطلوب في الاجتماع الإنساني، فالإنسان حيوان اجتماعي ومدني بطبيعته، ينفر من العزلة وينحى صوب الاجتماع، يرتبط بأخيه الإنسان، يتفاعل معه نفعا وضررا، وتحتاج استقامة هذا التفاعل من الجميع أو من بعضه أو من قليل منه إلى تمثّل العدل والعدالة والاعتدال في الفكر والمعتقد والمعاملة وسائر الأخلاق والآداب، ولماّ أخلّ المستعمر الفرنسي منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر بمعاني الخير والحق والعدل، فكشّر على أنيابه ليلتهم الأخضر واليابس بغير مشفقة وبعيدا تماما عن كل ما هو إنساني، مستمسكا بكل ما هو لا إنساني بغيض وإجرامي، فتوالت جرائمه وتراكمت، فتوفرت شروط النهوض الثوري ولوازم الإقلاع الحضاري، فكان موعد الأمة الجزائرية مع النهضة والحضارة والتاريخ، إلى أن طلع فجر التحرر وبزغت شمس الحرية وغشّت سماء أرض الجزائر برمتها. النهوض الثوري لا يتحقق فعل الأداء والإنجاز بمردوده المطلوب وفي أرقى صوره إلاّ من خلال رأس المال البشري، باعتباره العدّة الدائمة في أي مشروع نهضوي وحضاري مثمر، وأول وأرقى أنواع الرأس مال الإنساني، ما يسمى برأس المال الثقافة، الذي يمثل ما تملكه جماعة بشرية ما من معارف وعناصر هوية وخصوصية تاريخية وثقافية ولغوية، باعتبار الثقافة مظاهر دينية وعلمية وفلسفية وفنية وتقنية، وكل مظهر فيها عرف ولازال يعرف التطور والازدهار، والتطور الشامل لكل مظاهر الثقافة هو من صلب وصميم الحضارة، فالرأسمال البشري الثقافي يكتسي أهمية خاصة سواء بالنسبة للتعبير عن الحضارة والنهضة أو بالنسبة لتحويل عناصر الثقافة الخاصة بالأمة إلى دواعي الحركة والفعل والتغيير، فثقافة الزوايا والكتاتيب في الجزائرالمحتلة وما تضمنته هذه الثقافة من خصال العروبة في الفكر والممارسة ومن القرآن وأخلاق القرآن وتعاليم الإسلام عامة التي تنتهي بعقيدة تقول إنّ المستمسك بكتاب الله لا تقهره قوّة، حيث استجابت هذه الثقافة بجميع عناصرها لنداء الفطرة والواجب ونداء النهضة والحق والعدل، فتحقق التوازن الذي كان مفقودا بين الرأسمال الثقافي الجزائري وسنن الكون في التاريخ والنهوض والتحضر، وتجسد الصراع بين قوى الشرّ وقوى الخير، بين ثورة شعب أبي صاحب قضية وبين استعمار بغيض مثّل الاستبداد في قمتّه والإجرام في أوجه ومنتهاه، وكانت الغلبة لقوى الحقّ على قوى الباطل لأن الحقّ يعلى ولا يعلى عليه، فالحق اسم من أسماء الله الحسنى ومن صفاته وأفعاله. النهوض الثوري لدى شعب أبيّ كريم معطاء في تاريخه الطويل، في تراثه وفي عصره، خيار لامناص من الانخراط فيه، وبذل الوسع من الجهد في تكريسه فعلا لا خطابا فحسب، بالاستعانة بكل ما تملكه الأمة من ذخيرة حيّة وطاقة بشرية ومادية، روحية ومعنوية فاعلة وفعّالة في كيان شامل تحشد الطاقات وتعمل على تعبئة الجماهير، وتشحذ الهمم وتجند الطاقات في الداخل والخارج، فهو حراك جدّي وجريء وطني محلي خالي من العمالة الأجنبية التي تسيء لقدسية المنطلق والمنهج والهدف، ففي الجزائر الثورة والنهضة كان كل شيء جزائريا، مع استلهام الدروس والعبر من الماضي والحاضر، والعمل على الصعيدين المحلي والإقليمي والدولي، فأصبحت الثورة حقيقة ثابتة، وصارت النهضة واقعا ملموسا حينها تقدمت مسيرة التغيير الاجتماعي والسياسي في المجتمع من الإرادة إلى الفعل إلى الغاية، فتحوّل الحلم إلى واقع، وتحوّل تاريخ الجزائر الحديث من تاريخ احتلال واستعمار واستدمار واستحمار إلى تاريخ حرية واستقلال وسيادة وبناء تشييد وسير في الركب الحضاري. خاتمة إنّ المعجزة التي صنعتها الثورة الجزائرية هي قبل كل شيء معجزة تاريخية سياسية وعسكرية بكل المقاييس، انتهت ببناء دولة لها ثقلها على الصعيد الإقليمي في المغرب العربي وعلى الصعيد الإفريقي وعلى صعيد البحر الأبيض المتوسط وعلى الصعيد العالمي، أقبل الجزائريون في نهضتهم الثورية على المنهج القويم والسلاح الفعّال والوعي الراشد والوسائل الناجعة، من تعاون وتضامن واتحاد فأصابوا الهدف في المظهر والجوهر، في الصورة والمحتوى، لأنّ المشروع النهضوي الثوري التغييري استمد روحه من الذاتية الجزائرية وخصوصياتها الجغرافية والثقافية والتاريخية، فالنهضة الثورية المنتجة هي تلك الوثبة القويّة والهبّة الواعية بذاتها تتخذ من المقاومة والكفاح والصمود سبيلا ومن سنن الكون مطية نحو المنشود من الآمال والتطلّعات.