قد يذهب في اعتقاد البعض أن شهر رمضان شهر الاتكال والتخاذل والتكاسل والتقاعد، وأنه بالصوم يتراخى الإنسان وليس له تأثير في نفسية الصائم، واعتقاد مثل هذا خاطئ، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، فهناك العديد من العوامل التي نجدها كامنة في الإسلام والتي تدفع بالمؤمن الصائم إلى النشاط وإلى الجهد وإلى الإنتاج. ولتحقيق هذا البعد الحضاري في شهر رمضان، وضع الإسلام جملة من الإجراءات العملية للحفاظ على سير العمل بانتظام في رمضان. التهيئة التهيئة النفسية للصائم من أهم الأمور، فالناس على مواقف ثلاثة من العمل في شهر رمضان، الموقف الأول: الانقطاع الوقتي عن العمل والحصول على الإجازات، للتفرغ للراحة، وربما للقيام والاعتكاف. الموقف الثاني: الاستمرار في العمل مع التخاذل والتكاسل وعدم أداء الواجب على الشكل المعهود. والموقف الثالث، وهو الموقف الرشيد الذي ينبثق من وعي عميق وفهم دقيق لأسرار عبادة الصيام يجمع بين مشقة الصوم المعتادة ومشقة العمل، فالله سبحانه يريد أن يرى عباده صائمين وهم في مواطن العمل، يؤدون واجبهم المهني على أكمل مواصفاته. والحقيقة الثابتة في هذا الدين أن الله تعالى لم يشرع عبادة الصيام كي تكون عائقاً أمام تحقيق أهداف الإنسان وتجسيد أركان الخلافة وعمارة الأرض، أو الوقوف أمام أهداف المجتمع العامة وتطلعاته الحضارية، فرمضان شهر عبادة وإنجاز وإتقان. التحلي بالصبر ولتهيئة الصائم نفسياً للصيام حثه على ضرورة التحلي بالصبر أثناء الصيام، فالصائم يصبر على طاعة الله عز وجل ويصبر على ترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها ولهذا جاء في الحديث القدسي: (يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، ويصبر على ألم الجوع والعطش، ويصبر على العناء والتعب والمشقة الملازمة للعمل يوم الصيام، والأرقى من ذلك صبره على أذى الناس وانفعالاتهم وكظم غيظه وعدم رد فعله يقول صلى الله عليه وسلم: الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ. فالصبر سلاح المؤمن الصادق يتذرع به عند الملمات والمكاره، وتكررت مادة الصبر أكثر من مائة مرة في القرآن الكريم، وفي ذلك دلالة على بالغ عناية القرآن بهذه الصفة، وأثنى على الصابرين غير مرة، ووعدهم فوزاً مبيناً في الدنيا والآخرة، وجعله مفتاح كل باب مغلق ومرقاة لكل مطلب بعيد، وسبيلاً للظفر في الشدة والرخاء. ولما كان أفضل أنواع الصبر الصيام، فإن رمضان يعد مناسبة لتأصيل فضيلة الصبر في المؤمن الصائم، قال صلى الله عليه وسلم: (...وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر، فقال في استقبال رمضان: فَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). وليس دائماً يكون الصبر مرتبطاً بالمصائب، فإن حياتنا اليومية كلها لا تقضي حوائجها إلا بالصبر، صبر الطالب على طلب العلم والمداومة على تحصيل المعرفة، وصبر المراجع الذي يريد أن تقضى معاملته بسرعة وعلى حساب المنتظرين، وصبر السائق وهو ينتظر دوره في السير وفق قوانين السير وآداب الطريق وأخلاقيات المناوبة دون مجاوزة ممنوعة قد تكون عواقبها مهلكة، أو دون احترام الغير. فالصبر بهذا المفهوم يعد سر الحياة وسبب الاستقرار النفسي والاجتماعي. التعجيل - الحث على تعجيل الإفطار وتأخير السحور، فالعمل ما دام يحتاج إلى قوة بدنية ندب الإسلام تعجيل الإفطار والتسحر، فيستحب للصائم أن يعجل الفطر متى تحقق غروب الشمس، قال صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، ومن المستحب أيضاً تأخير السحور إلى ما قبل طلوع الفجر، ففيه بركة لقوله صلى الله عليه وسلم: (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً)، ففي الحديث حث على السحور، وأما البركة التي فيه فظاهرة لأنه يقوي على الصيام وينشط له وتحصل بسببه الرغبة في الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر، فيجد في بدنه طاقة تساعده على العمل والإنتاج، وهذا معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالسَّحُورِ فَإِنَّهُ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ)، ومعنى قوله: استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، فالسحور يقوي العزيمة والحزم ويقي الصائم من الوهن ونبذ الارتخاء. أما النهي عن الوصال، الوصال هو تتابع الصوم ليلاً ونهاراً دون الإفطار في الليل، من شأنه أن يضعف البدن ويوهنه، ولا يقدر على مواجهة مشاغل الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ). قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (إِنِّى لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِ). وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُوَاصِلُوا). قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: (إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي)). فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، فَوَاصَلَ بِهِمُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْمَيْنِ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ)، وفي رواية: وَاصَلَ أُنَاسٌ، مِنَ النَّاسِ فَبَلَغَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ (لَوْ مُدَّ بِي الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ). فالرسول عليه السلام نهى صحابته رضي الله عنهم عن أن يشددوا على أنفسهم بالوصال، إلا أنهم رغبوا في مواصلة الليل والنهار صائمين لا يفطرون طلباً لزيادة المثوبة، فنهاهم عن ذلك رحمة بهم وشفقة عليهم، عملاً بقاعدة الاعتدال والتوسط المبثوثة في ثنايا رسالته. - الأخذ بالرخصة للإفطار بسبب العمل من أجل السفر أو الإعياء الشديد أو قسوة العمل ولأصحاب المهن الشاقة الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة، ولا يجدون متسعاً من الرزق غير ما يزاولونه من أعمال. كل هؤلاء لهم أن يفطروا، بل يكون الفطر واجباً كلما قوي الظن في هلاك أو عطب مستمر يحدث من جراء الصوم، وهذه رحمة من الله تعالى، عملاً بالقاعدة: (صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه، فقال: (مَا لَهُ) قَالُوا رَجُلٌ صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ)، فالرجل بالغ في تعذيب نفسه، فصام في السفر مع حصول الضرر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله هذا ليس من البر. والحق وسط، يجوز الصوم في السفر الذي لم يصبه نصب من ذلك فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في سفر، أما إذا حصل النصب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا). فالعمل من هذا المنطلق قيمة حضارية ثابتة في الدين، فمن الواجب على كل مسلم العمل، والعمل في رمضان أوكد وأفضل، لأن الجزاء عليه يضاعف، ولأن المؤمن يثاب عليه أضعافاً مضاعفة، ومن ثماره يتصدق وينفق، وعلى قدر الجهد يكون الجزاء، وعلى قدر الحذق يكون الفلاح في الدنيا والآخرة. فلو عملنا بما جاء في ديننا، لكنا في هذا الشهر نمثل أفضل مظهر لمجتمع صالح تقي ناجح في حياته، لو أخذنا بهذه السنة فعجلنا الفطر، ثم أخذنا حظنا من النوم بعد صلاة التراويح، ثم قمنا قبل طلوع الفجر وأخذنا حظنا من السحور، وانتظرناه ثم صلينا الصبح، لو تركنا هذه السهرات الملونة بألوان الغيبة والنميمة والقيل والقال، وأقبلنا على الصوم في الحدود التي وجهنا إليها الشارع الحكيم، لكان الصوم لا يمنعنا من أي عمل، ولا ينقص شيئاً من إنتاجنا، بل بالعكس، يزيد في الإنتاج بدعوته إلى الإقبال على العمل، وترك فضول الكلام والاشتغال بعورات المؤمنين. * عن (الاتحاد) * لما كان أفضل أنواع الصبر الصيام، فإن رمضان يعد مناسبة لتأصيل فضيلة الصبر في المؤمن الصائم، قال صلى الله عليه وسلم: (...وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر، فقال في استقبال رمضان: فَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).