بقلم: كاظم فنجان الحمامي ربما لا يعلم الناس إن الدويلات البترولية التي ولدت في رحم الخليج العربي بعد الحربين العالميتين، والتي وقفت في طليعة البلدان المحرضة ضد العراق، وبرعت بحشد الجيوش الجرارة من أجل تدميره، والإساءة لشعبه الصابر المكافح، ربما لا يعلمون أنها برعت أيضا في تبني سياسة التأثيث السكاني بأساليب مبتكرة لا تختلف كثيراً عن أساليب ربات البيوت في تغيير أثاث منازلهن، وتبديل أدوات وأطباق مطابخهن، فالرغبة بالتغيير هي التي تحكمت ببيانات وسجلات الأحول الشخصية.. مما لا ريب فيه إن اصطلاح (التكويت) معروف للقاصي والداني في لغة المقاهي الخليجية والهندية والفارسية ويعني: منح الجنسية الكويتية لغير الكويتيين، ويعني أيضا منحها لمن لا يستحقها من أصحاب الجنسيات المتعددة والولاءات المتجددة، وهي ظاهرة تتقاطع تماماً مع ظاهرة (البدون)، التي تجاهلت فيها الكويت حقوق أربعة أجيال من العدنانيين والقحطانيين، الذين أنجبتهم أمهاتهم الشمريات والعتيبيات والمطيريات والعنزيات على أديم الأرض الممتدة من (كاظمة) إلى (رأس الخفجي)، فاستوطنوا هنا، وتناسلوا هنا، جيل بعد جيل، منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وحتى يومنا هذا.. ينظر المحللون إلى هذه الظاهرة على أنها نزوة ابتكرتها النخبة الكويتية المترفة لإرضاء رغبات التأثيث السكاني، وتحسين صورة المجتمع بأصول عرقية لا تنتمي وطنيا ولا روحيا إلى الكويت، وما أكثر الغرباء الذين حصلوا على الجنسية الكويتية بأيسر الطرق، أو بذريعة براعتهم في الألعاب الرياضية، وما أكثر الحالات التي طفحت فيها حكايات التأثيث السكاني على أحاديث الديوانيات والمجالس الشعبية. أما ظاهرة التقطير فهي حالة موازية للتكويت، تبنتها حكومة الدوحة عندما رغبت بتغيير طاقم قبيلة (الغفران)، فرمتهم كلهم خارج حدودها، وتخلصت منهم إلى غير رجعة، في تناقض عجيب بين ما تدعو إليه قيادتها السياسية في نضالها البترولي المتلفز نحو صيانة الحريات المدنية وإرساء أبسط أسس العدالة والإنصاف، وبين ما ترتكبه على أرض الواقع من انتهاكات غير إنسانية، استخفت فيها بالجنس البشري، تمثلت بتهجير ستة آلاف مواطن دفعة واحدة، فاقتلعتهم من جذورهم، وألغت أوراقهم الثبوتية، ثم رمتهم خلف حدودها مع السعودية، في الزمن الذي صار فيه اللاعب الأمريكي الجنوبي (سباستيان سوريا) مواطناً قطرياُ من الدرجة الأولى، ومن الصنف المدلل، بينما شملت عجلة الحرمان اللاعب (فهد العنزي)، الذي يعد من أفضل اللاعبين في المنتخب الوطني الكويتي لكرة القدم، باعتباره من فئة (البدون) المغضوب عليها، من فيكم يصدق أن (سباستيان سوريا) عربي الجنسية، و(فهد العنزي) من كوكب عطارد ؟؟.. انظروا كيف يطردون المواطن العربي من وطنه، وكيف يصادرون حقوقه كلها، ويلغون سجله المدني، وكيف يشطبون تاريخ أجداده، ويطمسون مواقف عشيرته بناءً على رغبات الحاكم المستبد، وقراراته الارتجالية الطائشة.. أما (التقمير) فهو الاصطلاح الذي يتعذر عليكم العثور عليه في قواميس ومعاجم كوكب الأرض، لأنه وبكل بساطة من المفردات التي تتعامل بها الكائنات الفضائية التي استوطنت على سطح القمر، الأمر الذي دفع حكومة الإمارات العربية المتحدة إلى معالجة أوضاع فئة (البدون) المولودين على أرضها، وإعادتهم إلى جزر القمر باتفاقية ثنائية أبرمت بين البلدين، تبيع بموجبها فئة (البدون) بحوالي (250) مليون دولار، بما يعادل (50) ألف دولار عن كل (بدون) تعيده الإمارات إلى جزر القمر، نحن الآن أمام ظاهرة غريبة تقوم بها الدويلات الخليجية بتصدير مواطنيها، والتعامل معهم كبضاعة منتهية الصلاحية، أو كمادة مرفوضة وممنوعة من التداول، بانتظار شحنها على السفن المغادرة إلى جزر القمر. ففي الثاني والعشرين من ماي من العام الماضي (2012) أقدمت سلطات الهجرة في إمارة عجمان على اعتقال المواطن الإماراتي (أحمد عبد الخالق)، الذي يعمل في منظمة (هيومن رايت ووتش)، واقتاده إلى جهة مجهولة، ثم أعادت سيارته إلى عائلته، وأشعرتهم إنها قررت نفيه وتهجيره إلى جمهورية جزر القمر، باعتباره من المواطنين القمريين بدلالة جوازه القمري الذي جلبته له السلطات الإماراتية نفسها، فهي التي تحدد لمواطنيها انتماءاتهم الوطنية الجديدة، وتبعثهم إلى بلدانهم البديلة، في سابقة دولية خطيرة، لم تحدث في الكون كله، حتى في العصور الوحشية الغابرة، بمعنى أنك تنام في سريرك وأنت أماراتي، لكنك تستيقظ صباح اليوم التالي لتكتشف أنك من جزر القمر، فلا تندهش من تصرفات برامكة الغاز والألغاز، وتصرفات بطانتهم السيئة، الذين وهبوا حقوق التجنس إلى خدامهم من الهنود والبنغاليين، ومنحوها للأسيويين والأفارقة، الذين يعملون في حظائر الأبقار والأغنام، وإلى المطربات والراقصات، والأنكى من ذلك كله إن بعض الدويلات الخليجية دأبت منذ مدة على استجلاب اللقطاء بأعداد هائلة من المغرب العربي، ومنحتهم جنسيتها لتستكمل بهذه الخطوة مشاريعها التخريبية الرامية لتأثيث المدن الخليجية بطواقم بشرية جديدة من خارج الوسط الخليجي... من المفارقات المذهلة أن تلك الدويلات المتباهية بغرورها استهدفت فئة قليلة من العرب، حرمتهم من أبسط الحقوق التي يتمتع بها أبناء القارات الأخرى من الذين وفدوا إلى الخليج بحثا عن فرص العمل، ولم يحلموا أنهم سيحصلون على الجنسية بلمح البصر، بينما ظل أبناء (البدون) يعانون من الحرمان منذ أكثر من قرن، من دون أن تُحسم قضيتهم.. فلا خير في الحكومات التي تتظاهر بالتمدن والتحضر، وتمعن في ممارسة أقصى طبائع الاستبداد والتعسف ضد أبناء جلدتها، ولا خير في الأمم التي لا تكترث لأوجاع الناس وهمومهم.. حكومات شملت برعايتها الأجانب والغرباء، وتركت المواطن الحقيقي يبحث عن هويته في ماراثون المطالبات الحثيثة، وهو الذي ضحى بروحه وعمره في الذود بالدفاع عن الأرض التي ولد عليها، وعاش عليها وأنهى خدمته القتالية في جبهاتها، فحفر قبره بيده ليستشهد من أجل عزتها ورفعتها، بينما فر الفارون، وهرب الهاربون بحثا عن الملاذ الآمن في ملاجئ المرافئ البعيدة، ورفعوا شعارات (يا روح ما بعدك روح)، ثم عادوا ليتبجحوا في المسلسلات الرمضانية، ويرسموا على شاشات التزييف والتلفيق أقبح مشاهد الشجاعة في الجبهات الافتراضية، التي صنعتها استوديوهات قناة (الوطن) بالعنتريات السوبرمانية.. لقد غرقت الدوحة الآن بالوافدين إليها من كل حدب وصوب، حتى صار المواطن غريبا على أرضه، معتكفاً في منزله، وغرقت الكويت في خضم التعددية العرقية التي ابتلت بها البلاد المفتوحة للغرباء.. قبل بضعة أيام شاهدت مقابلة تلفزيونية مع شاب، يزعم أنه كويتي، لكنه يعجز عن تكرار عبارة (أنا كويتي) بكل اللهجات العربية، فهي على لسانه أقرب ما تكون إلى اللغة الأوردية المكسرة، فيلفظها هكذا: (أنا كُفيتي) مع اهتزازة لا إرادية برأسه على الطريقة الهندية الموروثة.. لقد تحولت بعض الدويلات الخليجية إلى سيرك غير متجانس يعج بالبشر من كل لون وجنس ولسان، فضاع أبناء البلد في زحمة الوجوه الدخيلة، وتعطلت عندهم لغة الكلام بتداخل اللهجات الرطينة، بينما هيمن الغرباء على كل شيء تقريبا، وحشروا أنوفهم في الصغيرة والكبيرة بمباركة أمراء مجلس التهاون الخليجي، وسكوت كهنة الجامعة العربية.. والله يستر من الجايات..