عبد المجيد الغيلي لا زال ذلك الصوت ينبعث عبر بوابة الزمن، لتصل ذبذباته الخالدة إلى آذان العابدين، الذين يدركون جيدًا معنى العبادة... ذلك الصوت الذي أطلقه منذ أكثر من اثني عشر قرنًا أحد العابدين (وليس اللاعبين)، ذلكم هو عبد الله بن المبارك: يا عابد الحرمين لو أبصرتَنا*** لعلمتَ أنك بالعبادة تلعبُ من كان يخضب خده بدموعه*** فنحورنا بدمائنا تتخضبُ سأقف وقفة جديدة مع هذا الصوت، أحاول أن ألتقط بعض ذبذباته الخالدة، وترانيمه الساجدة... فما العبادة التي قصدها هذا الرجل؟! حتى نفهم الدرب الحقيقي الذي يسير عليه العابدون، فدعونا نربط هذه الأبيات مع فقيه الأمة الحبر ابن عباس رضي الله عنهما حين ترك اعتكافه في المسجد ليمشي في حاجة أخ له، ورأى أن تلك خير عبادة. والقرآن الكريم يؤسس هذا الأمر في أول سوره نزولا، فسورة البلد بدأت برعاية الناس قبل رعاية النفس، قال تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ) [16:13]. وهذا الواجب يتمثل في إقامة فعل الخير في المجتمع، كفك الرقاب من غل الرق والأسر، وفكها من غل الاستبداد والاستعباد، وفكها من الجور الواقع عليها، وفكها باستخلاص حقوقها، وفكها بإرشادها إلى استخراج حقوقها الإنسانية، بأي وسيلة شرعية كان ذلك. ومن فعل الخير إطعام اليتيم والمسكين، ويتوسع معنى الإطعام في هذا العصر، فلم يعد معناه أن يأخذ المسكين كسرة خبز أو تمرات يتبلغ بها، بل إن معناه أوسع من ذلك، فالإطعام معناه - اليوم- توفير الاحتياجات الأساسية لغير القادرين، والاحتياجات الأساسية مختلفة، تشمل الحاجة إلى الطعام والكساء والدواء، كما تشمل توفير حاجات المجتمع الأساسية اللازمة لأن يكون مجتمعا حرًّا كريمًا لا يستجدي غيره، ولا يسترقه أحد. هذه الاحتياجات متنوعة، تتمثل في البنية الأساسية لنهضة المجتمع من تعليم واقتصاد وقوة عسكرية وغيرها... هذا ما أسسه القرآن الكريم، ومن هذا النبع استقى ابن عباس، وابن المبارك، وسائر العابدين، وهو ما دلهم عليه أعظم رجل عرفته البشرية، حين يقول: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهرا). فمتى حرفنا مفهوم العبادة في الإسلام وقصرناه على جزء منها فقط، وأهملنا ما عداه؟! وهذا المقال ليس معدا لتناول هذه القضية في الإسلام، ولكنه وَمْضة عسى أن ينفع الله بها. أي عبادة أفضل عند الله من سرور تدخله على إنسان؟! إن أولئك الذين يغبرون أقدامهم وأوجههم في سبيل سرور الآخرين وإسعادهم - هم العابدون حقا... حين يقف الرجل موقفًا من أجل إنسان آخر، فإن هذا هو العابد الحقيقي... فكم منا عبد الله حقا؟! إن الله يحب أولئك الذين يتقربون إليه برعاية خلقه. يأبون أن يقعدوا في بيوتهم، أو في زوايا مساجدهم، فيخرجون: مدافعين عن حق مستلَب، ذائدين عن خير منتهَب، رافضين السكوت عن قيمة تُغتَصَب... هذا هو طريق العبادة.. فأين السالكون؟!