المفاهيم ذات أهمية كبرى لأن إدراكها ومعرفتها على الوجه الصحيح من منطلق هذا الدين العظيم، وفي نور الكتاب المبين وعلى خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم تجعل المسلم يسير على بينة من أمره، ولا تختلط عنده المفاهيم بما يقع في دنيا الناس من تحصيل المصالح وتغليب المنافع وتقديم الأهواء واضطراد الآراء، وهذا في غاية الأهمية لأننا اليوم نعاني من غياب المفاهيم وتشويشها والمعاناة الأكبر من تحويلها وانقلابها حتى أصبحنا في بعض الأحيان نرى الأمور منكوسة معكوسة وكأن المرء يقول لليل بظلامه الدامس: ما أبهى أنوارك وإشراقك، وينظر إلى الصبح بنوره الباهت وهو يقول: ما أشد الظلمة وما أعظم القتمة، وهذا أمر قد يراه البعض فيه مبالغة ولكنني سأشير إشارات متصلة لأمور تتعلق بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقتبس منها ما يصحح المفاهيم. ولا أحسب أن أحداً منا لا يعرف قصة هجرة صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يوم خرج متخفياً من مكة قاصداً المدينة في إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من المهاجرين، فلحقه كفار قريش واستطاعوا أن يصلوا إليه: (جئتنا صعلوكاً حقيراً لا مال لك وتخرج من بيننا وقد كثر مالك والله لا يكون ذلك)، وكان صهيب رامياً وكانت كنانته مليئة بالأسهم فقال: (والله لن تصلوا إلي حتى لا يكون سهم من كنانتي إلا في واحد منكم، فهل لكم في شيء خير)؟ قالوا: (وما هو)، قال: (أرأيتم إن تركت لكم مالي أكنتم تاركي؟) قالوا: (نعم)، فدلهم على موضع ماله كله الذي ادخره في حياته وأخفاه عله يصل إليه من بعد، فأطلقوا سراحه ومن جهة أخرى أخذوا ماله، أي خسارة أكبر من هذه أن تصبح في لحظة واحدة معدماً فقيراً صفر اليدين من كل أسباب الحياة المادية ورزقها ومالها، وكيف يكون الأمر أشد فداحة وخسارة عندما يحل ذلك بمن كان ثرياً غنياً ثم ينقلب في لحظة واحدة إلى فقير معدم. كم كان حزن صهيب على ماله؟ وكم دمعة ذرفتها عينه؟ وهل تردد في ذلك وهو ينازع نفسه؟ وكيف طابت نفسه من بعد أن يسير في طريق هجرته ليصل إلى مستقبل مجهول لكن الأهم كيف كان استقباله عندما وصل؟ في بعض ما ورد من روايات المفسرين في كتب التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم عليه صهيب قال: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى)، وعند ابن هشام في سيرته أن الفاروق رضي الله عنه ومعه بعض الصحابة لبوا صهيب عندما وصل إلى المدينة فقص قصته، فقالوا له: (ربح البيع)، وفي بعض الروايات في السيرة أنهم بادروه قالوا: (ربح بيعك)، قال: (وأنتم كذلك فما ذلك؟) قالوا: (أنزل الله عز وجل فيك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]). أورد ذلك في أسباب النزول في تفسيره ابن كثير رحمه الله وغيره من أهل التفسير، كيف انقلبت الخسارة الفادحة إلى ربح عظيم يهنئ به بدلاً من أن يعزى ويواسى، انظروا كيف تكون المفاهيم مختلفة عندما تكون القاعدة التي هي منها منطلقة متباينة، لو نظرنا إلى متاع الدنيا وزينتها وبهرجها لكان الأمر خسارة ويحتاج إلى عزاء ولما نظروا إلى الحياة الأخرى وما يدخر فيها وما يرصد لها وما يؤمل من بعد الحياة الدنيا في عظيم الأجر والثواب وجدوا ذلك تجارة رابحة وصفقة عظيمة وانقلبت التعزية إلى تهنئة. وأسأل اليوم: لو أن أحداً أنفق لا أقول ماله كله وإنما شطراً عظيماً أو كبيراً من ماله فهل ستجدون أكثر الناس يهنئونه أم يعزونه؟ الجواب نتركه لنا لنفكر ونتدبر فيه. وفي هذا السياق حتى نتم الأمر، لما نزل قول الحق جل وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران من الآية:92]، انظروا كيف كانت الآيات والمفاهيم تتحول من العقول والأفهام إلى القلوب والمشاعر ثم تترجم إلى السلوك والأعمال، جاء أبو الدحداح رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية يريد أن ينال البر، والثمن، لن تنالوه حتى تنفقوا مما تحبون، والكلمة تعبر عن مشاعر القلب أي ما تعلق به قلبك حباً عظيماً وشغفاً كبيراً، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، هكذا جاء في القرآن فجاء أبو الدحداح رضي الله عنه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول له: (إن بيرحاء -وهو بستان كبير فيه نخل كثير- أحب أموالي إلي وإني أريد أن أخرج منه لله عز وجل فما تأمرني فيه يا رسول الله)، قال: (اجعله في قرابتك)، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: (بخ بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح). تجارة أخرى مختلفة ليست كالأسهم التي تصعد وتنزل، ليست كالبضاعة التي قد تأتي بأرباح مضاعفة لأن تلك ميزانها عند الله سبحانه وتعالى ومضاعفتها؛ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، هذه فيها مضاعفة صح فيها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأخذ صدقة أحدكم بيمينه فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه حتى تكون عند الله مثل جبل أحد)، وجبل أحد تعرفونه من يدور حوله بالسيارة يقطع اثني عشر كيلو متراً في مساحته مع ضخامته ووزنه. إذاً أيها الإخوة.. لا بدّ لنا أن نصحح المفاهيم، وألا تكون مفاهيمنا أرضية بل سماوية، وألا تكون دنيوية بل أخروية، وليس في ذلك تحريم لشيء أحله الله، وليس في ذلك أمر يخالف طبيعة النفوس إذا خالطها الإيمان واستقر فيها اليقين. ووجه آخر متصل بالهجرة أيضاً وهو مجال عظيم من مجالات التأثير التي تبين لنا كيف تكون المفاهيم؟ إنه الشاب المنعم المدلل المترف المعطر الذي كان لباسه مضرب المثل في النعومة وفي الفخامة، وعطره كان يفوح بعد أن يمر في طرقات مكة حتى يعرف الناس أنه مر من هنا، إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه كما تعرفون لما أسلم توقف عنه كل ذلك، منع منه المال، انتهى زمن النعيم، توقفت أسباب الرخاء أي المادية حتى كان في أشد الأحوال وفي أرثى حالات ما يلبس من الثياب، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقبل عليه في جمع من أصحابه فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر تأثراً فطرياً لهذا التحول فقال: (ولقد رأيت مصعب بن عمير وما في مكة أعطر منه ولا أحسن لمة منه شعره، ومثله مضرب مثل) أخره من ذلك حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، آثر الآخرة على الدنيا، تعلق قلبه بالمعاني دون المباني، عاش مع اليقين والإيمان وليس مع الأمور المادية المحسوسة، هذا الشاب الذي صقل بالإيمان وترفع عن ضغوط الحياة الدنيا بيقينه هو الذي انتخبه النبي صلى الله عليه وسلم واختاره ليكون أول سفير للإسلام، وبعثه بعد بيعة العقبة ليكون المبشر بهذا الدين فظل يدعو زمناً طويلاً قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عام، فما بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإسلام وأخذ من أهله ببركة فضل الله عز وجل ثم بما كان من جهد هذا الصحابي، اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في حصار اجتماعي، وفي تضييق اقتصادي، ولم يكن عنده زوجة ولا ولد فأراد أن يطلق عنانه وأن يعطيه خير ما يحب وهو أن يبذل لدين الله سبحانه وتعالى. وخذوا في الهجرة أيضاً في هذا المعنى القصة المعبرة المؤثرة لأم سلمة رضي الله عنها، مضى زوجها أبو سلمة مهاجراً وظلت في أهلها في مكة، وكان كفار قريش يتنافسون في الحجر على أبنائهم وأتباعهم ومنعهم من الهجرة والمعاقبة على من يهاجر، فجاء آل أبي سلمة إلى أم سلمة وأخذوا ابنها منها وقالوا: (ابننا لنا)، فمضى زوجها من جهة، وأخذ ابنها من جهة، وظلت كل يوم تترقب وتتحسر وتبكي على حالها لا لتلتحق بالزوج أو لتضم الابن، ولكن لتلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تيسرت لها الأسباب فهاجرت، ومن بعد ذلك مات زوجها فأكرمت بخير زوج سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، الخسارة والربح مختلفات باختلاف ما يكون في اليقين والقلب والنفس. معاشر المؤمنين.. الهجرة في دلالاتها تصحيح للمفاهيم نحتاج أن نرجع فيه إلى مفاهيم كثيرة جاءت بها الآيات والأحاديث.. أسال الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا فيه، وأن يجعلنا بكتابه تالين وبه مستمسكين وبأحكامه عاملين وله داعين ولتعليمه وتحفيظه باذلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا لسنة النبي والمصطفى صلى الله عليه وسلم متبعين ولآثار السلف الصالح مقتفين. -بتصرف-