عن صحيفة القدس العربي تقدم أمثولة نيلسون مانديلا دروساً لا يبدو أن العرب قادرون على استيعابها والتعلّم منها، ولا ندري حقاً إن كانوا يحترمون هذا الرجل ويدركون مغزى حياته ونضاله أم أنهم ينكّسون أعلام الحداد كنوع من التقليد الفلكلوري فحسب. تتشابه كفاحات الكثير من البلدان العربية ضد الاحتلال والاستيطان والعنصرية والاستبداد مع نضالات شعب جنوب إفريقيا، كما تتشابه حيوات مناضلين عرب كثر مع حياة مانديلا، فقد قضت أعداد منهم عقوداً في السجون وزادت أعوام أسر بعضهم عن فترة سجن مانديلا الطويلة. تتصادى آلام جنوب إفريقيا أيام الابارتايد كثيراً مع آلام فلسطين والجزائر خصوصاً، وتتقارب أحكام العنصرية الجنوب إفريقية التي ناضل مانديلا ضدها مع أحكام الاحتلال والاستيطان والطغيان، وتكاد تتطابق طرق النضال التي مارسها العرب في كافة بلدانهم مع أقرانهم في جنوب إفريقيا. وكما أنتجت الحركة النضالية في جنوب إفريقيا رموزاً كباراً مثل نيلسون مانديلا فقد ظهر مناضلون تاريخيون عرب قادوا نضالات حركاتهم الثورية ضد الاستعمار وتمكنوا من الانتصار عليه وتأسيس دول مستقلّة قادرة على تحديد مصيرها. لكن عربة التشابه مع جنوب إفريقيا وأمثولة مانديلا تتوقف هنا، فقادة الحركات الثورية العربية التي خاضت نضالات عنيفة ضد الاستعمار، ما لبثوا أن تحوّلوا إلى طغاة صغار حكموا بلدانهم بالنار والحديد، وزرعوا بذرة احتلال داخليّ كان، في أحيان كثيرة، أشد قهراً وقمعاً واستبداداً من الاحتلال الخارجي. عند خروجه من السجن يوم 11 فيفري 1990 قال نيلسون مانديلا ما يلي: (أقف هنا أمامكم لا كرسول بل كخادم ذليل. أمامكم أمام الشعب. إن تضحياتكم الدؤوب والتاريخية هي التي جعلت من الممكن أن أقف هنا اليوم. ولهذا أضع ما تبقى من سنوات عمري بين أيديكم). وفي أول خطاب له كرئيس لجنوب إفريقيا عام 1994 قال (حان الوقت لمداواة الجراحة حان وقت تخطي الهوة التي فرّقت بيننا. آن أوان البناء). وفي مسيرته لتأسيس جنوب إفريقيا لم يستنفر مانديلا أقرانه السود للانتقام من ثلاثة قرون ونصف من الظلم الذي عانوه بل بدأ يرسي أسس مجتمع عادل يحترم كرامة البشر ولا تسحق فيه الأكثرية الأقلية. مجتمع يقوم على تسوية تاريخية ومصالحة لأنه، كما قال، (لا يولد شخص وهو يكره شخصاً آخر)، اشتغل مانديلا بدأب وحكمة وصبر على كسب من كرهوه واضطهدوه فزار رئيس جنوب إفريقيا الأسبق وشرب الشاي مع أرملة مهندس نظام الفصل العنصري الذي حظر حزبه (المؤتمر الوطني الإفريقي)، واحتفل برئيس الاستخبارات الذي كان مسؤولا عن سجنه ووحّد البيض والسود بدعمه للفريق الوطني للريغبي الذي كان رمز الأفريكانيين (البيض المتحدرون من هولندا). كان مانديلا شيوعياً مؤمناً بالكفاح المسلح ويرأس منظمة كان العالم الغربي يعتبرها إرهابية، لكن هذه التهم (الخطيرة) الثلاث المطاردة في كثير من دول العالم الكبرى (والصغرى) في القرن الماضي لم تستطع منع شيوع شعبيته الأسطورية في العالم التي تم رفدها ودعمها بنضالات اليسار العالمي آنذاك وكفاح شعوب العالم الثالث الذي احتضن حركته المناضلة ضد العنصرية. أمثولة مانديلا تقوم على أساسين متكاملين: الكفاح المتفاني والمبدئي بكل أشكاله السلمية والمسلحة ضد الأشكال المتعاضدة من العنصرية والاستبداد والطغيان، من جهة، وتقبّل الآخر واستيعابه، من جهة أخرى. أمثولة مانديلا هي أن لا تتحوّل الضحية إلى جلاد كي لا تتكرّس دائرة الكره والعنف والقهر التي لا مخرج منها. أما أمثولة أغلب قادة الثورات العربية فكانت قمع المختلف أيديولوجياً عنهم وتقليد طغم المحتلّين في استبدادها وإعادة تكريس الأساليب التي استخدموها لقهر الشعوب، باستثناء أن تطبيقها على أيدي النخب الجديدة على أهلهم كان أقسى وأشد ظلماً وقهراً وعدواناً من الأعداء السابقين، وهي الوصفة المستمرة حتى الآن والتي أدت إلى استنقاع بلداننا العربية في إرهاب وإرهاب مضاد.