كل أخبار أول أمس أكدت أنه مات عن عمر 75 سنة بعد صراح مع المرض. وكلها أكدت رحيله الواقع أنه انتقل إلى السماء ولم يرحل.. والحقيقة أنه ما انتقل إلا بعد 75 سنة إثر صراعه مع الحياة. يغادرنا سميح القاسم في شهر يبدو أنه صار شهر الفقد، ففي أوت رحل كبير الشعر الجزائري مفدي زكريا، وفيه أيضا بكينا محمود درويش قبل ثلاث سنوات خلت. لا يجمع هؤلاء الثلاثة إلا إيمانهم بقضية واحدة هي «الوطن».. يغادرنا سميح قاسم في عز مأساة الشعب الفلسطيني في غرة. يغادرنا وعيناه معلقتان كروحه في أمل يسمى حرية، تماما كما بقيتا ثابتتين طوال مسيرته الإبداعية على قضية واحدة هي فلسطين.. يغادرنا بعد عقود من الأمل في وطن رهنته سياسات الزعامات الكاذبة والحروب المصنعة وأكوام من الأمال الكاذبة التي صنعتها آلة التفاوض من سراب.. عقود من الكتابة، من الالتزام التي قابلتها عقود من الخيبات والانكسارات والتردد والخيانة المسماة كياسة.. عقود تمر، تطرح العمر من عمره من دون أن يتغير شيء.. لا شيء يبدو قد تغير.. في الجريدة.. كل شيء ثابت إلا تواريخ الصدور.. إلا قوائم من تواروا خلف بستان القبور... يغادرنا قاسم مستريحا منا، فاتحا ذراعيه للموت الذي منذ ولادته عام 39 لم يكف عن مغازلته، ليرضخ له أخيرا بعد 75 سنة من التدلل ويفاجئه بحقيقة أنه لا يخشاه وإن كان لا يحبه: «أنا لا أُحبُّكَ يا موتُ.. لكنّني لا أخافُكْ وأدركُ أنَّ سريرَكَ جسمي.. وروحي لحافُكْ وأدركُ أنّي تضيقُ عليَّ ضفافُكْ أنا.. لا أُحبُّكَ يا موتُ.. لكنني لا أخافُكْ!» يغادرنا منتصب القامة، مرفوع الهامة كما غنى له مرسيل خليفة ذات يوم. تلك القصيدة التي تغنت بها أجيال من الوطنيين الأحرار، وساهمت في إبقاء شمعة الأمل في نفوسهم لعقود وعقود، تماما كما زرع الأمل في قلوب الملايين من عشاق الشعر الملتزم، وملايين المضطهدين في أرضهم وخارجها: من شدة الحرّ، من البقّ، من الألم يا أصدقائي.. لم أنم و الحارس المسكين، ما زال وراء الباب ما زال .. في رتابةٍ يُنَقّل القدم مثليَ لم ينم كأنّه مثليَ، محكوم بلا أسباب ! كل أخبار أول أمس أكدت أنه مات عن عمر 75 سنة بعد صراح مع المرض. وكلها أكدت رحيله. الواقع أنه انتقل إلى السماء ولم يرحل.. والحقيقة أنه ما انتقل إلا بعد 75 سنة إثر صراعه مع الحياة.