بدأ استعمال مفهوم الحداثية Modernitéأو التحديث (Modernisation) باعتباره مصطلحا ابستمولوجيا في إيطاليا سنة ,1904 لتمييز التيار المجدد في اللاهوت الكنسي الكاثولويكي، وقد اعتبر الكرسي البابوي مناهج البحث في علوم الدين تمردا على التوجيه التقليدي للفاتيكان وتعاليمه المدرسية Scolastiques المتوارثة منذ تأسيس الكنيسة على أيدي القديسين الأوائل. ظواهر الحداثة في المجتمع ولتأييد هذا الطرح، يمكن النظر بسرعة الى ما علق بأذهان النخب في بلادنا وفي المنطقة العربية من معالم الحداثة الأورو أمريكية المهيمنة على العالم من الفترة ما بين الحربين وانطلاق المشروع الجديد (Newdeal)، في الولاياتالمتحدة أولا، ثم في غرب أوروبا ثانيا، وهو المشروع الذي أدى الى الثورة التكنولوجية المعاصرة، وسط تغيرات اجتماعية متسارعة، تنطلق من مراكز جذب ودفع متعددة أهمها الذات المفكرة كوجيطو إرغوصم (Cogito ergosum)، التي تحاور نفسها وتتحاور مع من حولها، جدل بين العقل والإيمان يسمح كل منهما للآخر بأن يذهب الى أبعد مدى، وينسى البعض عندنا عند الحديث عن التحديث والعصرنة أن ديكارت الذي وضع قواعد التفكير في كتابه المشهور زقواعد المنهجس (Discours de la méthode) ، يصل في تأملاته الروحانية (Meditations) إلى حد التصوف والرهبنة، وأن باسكال الرياضي هو كاهن غارق في ميتافيزيقا الكون والإنسان، وأن ما بين غاليليو واينشتاين جسر دعائمه عقل وإيمان قد يكون أحدهما هو نقطة البداية ولكنهما في النهاية يلتقيان أمام بوابة المعرفة الكلية، التي يعتبر بيرغسون (H.Bergson) ان مفتاحها هو الحدس (Intuition)، أي ومضة تقع في منزلة ?ما- بين العقل والروح، وهذا الحدس هو ما يسميه التصوف العرفاني بالإشراق الروحي. لا نطيل في هذه المسألة التي يكثر حولها الجدل منذ القديم إلى اليوم، ومن بينها مقولة الوزير الأول عبد المالك سلال عن ضرورة تعزيز تعلم الرياضيات وهي مفتاح كل فروع المعرفة وما أثارته من ردود فعل مؤيدة أو متخفظة في هذه المسألة تشعل اليوم العديد من الأكادميين نذكر بينهم الباحثة م. زسالزمان M.R. Salzman من جامعة كاليفورنيا التي أصدرت دراسة بعنوان انهيارات روما The falls of Rome من 270 إلى 603 بعد الميلاد (2012) واستبعدت فيها أن يكون ظهور المسيحية هو السبب، بل كان السبب هو هجمات المتوحشين Barbares من الشمال والجنوب وأعراض التخلف والمجادلات التي تنسب إلى بيزانطة عاصمة البابوية، وتعرف بالمناقشات البيزنطية نسبة إلى امبراطورية القسطنطينية الشرقية أو اسطنبول الحالية المستهورة بالمجادلات الطويلة والعقيمة حول: الأسبق البيضة أو الدجاجة، لا نقارن بين أتينا مركز الحضارة العالمية في القرن الثالث قبل الميلاد وحال منطقتنا اليوم، غير أننا نذكر أن أفلاطون وضع على باب أكاديميته (أكاديموس) الشعار التالي: لا يدخل علينا إلا رياضي، ولا نعرف ماذا كانت ردود الفعل في مجتمع أثينا القديم، ولكن المؤكد أن أرسطو (أرسطاطا) ليس مؤسس علم المنطق إيساغوجيا عند قدماء المسلمين قد تخرج من تلك الأكاديمية. إن الذي يجذب الاهتمام ويستقطب جزءا كبيرا من الجدل والصراع الدائر اليوم بين القيادات والنخب هو الآثار السسيولوجية للحداثة وليس منابعها الحقيقة التي أشار إليها فرانسيس بيكون ومن أهم الآثار المرتبطة بالحداثة كما صنعها الغرب الأروبي الأمريكي ما يلي: -1- تقليص الريف وتضخم المدينة (L?urbanisation). -2- تفكك الولاء الجمعي العائلي والقبلي والقروي. -3- التوزيع الذري للعلاقات، والفردية المطلقة (Atomisation-individualisme). -4- الاستهلاكية وتشخيص المستهلكات بواسطة الاشهار الذي يفرض نوع وشكل السلع. -5- تحرير المرأة من وصاية العائلة وضغوط الضمير الجمعي. -6- كسر الحدود بين المقبول والمرفوض في العلاقات بين الجنسين، بل تشريع الجنسية المثلية في عدد من البلدان في أروبا والولاياتالمتحدة وأثيرت زوبعة في فنحان بعنوان غامض: الزواج للجميع على الرغم من استنكار محتشم للكنيسة وليكن ذلك حداثة وديموقراطية ولائكية ولكن كيف ستحل مسألة التناسل وغريزة الأمومة والأبوة والنسب؟ ليس من شأننا الإجابة، ولكن الشذوذ يبقى شذوذا ولم عمّ وتقنّن. -7- اعتبار الجسم والمظهر قيمة عليا فالرشاقة بالنسبة للرجل والمرأة هي الشرط الأول للنجاح ويصبح الجسم قيمة مطلقة فيما يخص المرأة حيث تقوم صناعات كاملة لتخفيف الوزن والمساحيق لغرض بيع الرشاقة والمتاجرة بالجنس ومثيراته. -8- الانتقال من الحرية والديمقراطية الى براغماتية نفعية تفرض على الرأي العام نموذج الحياة والاتجاهات السياسية والثقافية والاجتماعية وتلعب أجهزة الاعلام القوية ومؤسسات قياس الرأي العام دورا هاما في نمذجه (Modelling)، المجتمع وتوهمه بأنه حر في اختياراته ونمط حياته. وهذه النقطة بالذات هي التي عبر عنها المفكر اليساري الامريكي أريك فروم (E.Fromm) بقوله أن مشكلة العصر هي كيف تكون لا ماذا تملك (How to be not whatyouhave). الشراكة الحضارية والنظرة العلوية هذه بعض الانعكاسات السسيولوجية للحداثة، لا ينبغي الحكم عليها من الموقع الحضاري الذي ننتمي إليه، بل من خلال السياق التاريخي الاجتماعي للبلدان التي انتجت الحداثة في صورتها الراهنة، ولو سمحنا لخيالنا أن يحلق ويستحضر الصورة التالية، وهي أن ينقل التليفزيون صورة للحياة في بغداد أو بجاية أو قرطبة أو القاهرة، أو دمشق، أو تلمسان، أو فاس، أو تونس، في القرن الثالث الهجري، لمشاهدين أوروبيين في القرن العاشر ميلادي ونسمع لاستجاباتهم لحداثة تلك المجتمعات في ذلك العهد، وهي حداثة كانت بدون شك في مرتبة قيادية، لنترك الجواب للتخمين، وعلى الرغم من أن الذي يهمنا هو حالنا اليوم وهو بين التفريط والانفراط، فإننا نجد جوابا على السؤال السابق عند ابن حزم الأندلسي وهو يصف فيس الإحكام في أصول الأحكام انبهار الأسبان (القوط) بالحضارة والثقافة الاسلامية وتقليدهم للمسلمين في لباسهم وكلامهم وأشكال الترفيه والحرية التي تتمتع بها المرأة في الجزيرة الخضراء، حيث أن مجالس الشعر والفن وما يشبه عرض الأزياء تنظمها نساء ولا يمنع أحد من حضورها، ومن الناحية العلمية والثقافية فقد كانت عواصم العالم الاسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجري (10و11م) تكثر فيها منابر للحوار بين الفلاسفة من الملاحدة وعلماء الكلام والأطباء والفقهاء والمترجمين من النصارى واليهود ومن أعراق مختلفة، نجد ما يشبه المحاضر عنها في الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي. وفي المقابل نرى النقيض تماما في الصورة التي يرسمها أحد كبار فلاسفة أوربا والعالم الحديث وهو الألماني هيغل (1770-1831) G.W.Hegel كما عبّر عنه في أحد نصوصه التي نشرتها موسوعة العلوم الفلسفية في ترجمتها إلى الفرنسية سنة ,1970 فقد وصف هيغل كل شمال إفريقيا في محاضرة ألقاها بجامعة برلين بما يلي: * ز إنه بلد (يعني شمال إفريقيا) لا هم له سوى اتباع قدره وقدره كل شيء عظيم يحدث خارجه، بلد ليس له ملامح واضحة ولا أية ملامح يمكن أن تنسب إليهس، ولا ندري من أين استمدّ هذا المفكر هذا الحكم على تاريخ وتراث شعوب كان لها شأن في حوض المتوسط وجنوب الصحراء، فهل هي نزعة الأثنوسانترية والاعتقاد بتفوق الجنس الآري على كل البشر سابقا ولاحقا؟ ولكن ربما من المحتمل أن هذا الفيلسوف الموسوعي لم يطلع على دراسات المستشرقين الألمان عن إسهامات الحضارة العربية الإسلامية في عهود الأنوار، وعلى أي حال للساسة والمفكرين من الغرب والشرق أن يقدموا توصيفاتهم وأحكامهم وتبقى الحضارة ثروة مشتركة لكل الإنسانية. ترددت مثل هذه الأحكام القطعية التي تنكر استمرارية الحضارة الانسانية وشراكة العديد من الأمم في نموها وازدهارها، وبالنسبة للجزائر التي خاضت صراع البقاء قبل أن تهزم طغيان الكولونيالية فإن مشروعها الحضاري المجتمعي انطلق من جديد في بيان الأول من نوفمبر 1954 الذي وضع منطلقات جزائر ما بعد التحرير بوضوح وبطريقة قريبة من المعادلات الرياضية فالحداثة لا تلغي الماضي ولا تعني الاكتفاء باستهلاك الفائض المخصص للتصدير ولا شك أن مخبرها الحقيقي يتمثل في استنباتها في المدرسة والجامعة ونشرها أفقيا بين الشعب تحت لواء الحرية والعدالة والاستفادة بلا عقد من منتوجها بتطويعه وتوطينه في بلادنا وهي عملية طويلة النفس تقوم على استراتيجية جسورة ترى المستقبل أمامها وليس خلفها. خلاصة لا تتولّد الحداثة وتنتشر في المجتمع بدون تواصل بين النخبة والجمهور، عبر جسور طبيعية هي المنظمات الثقافية والسياسية التي تتمتع بحرية الفكر الذي ينطلق من معطيات الحاضر والقدرة على تشخيص نقائصه وانسداداته الموروثة والمستجدة وإضافة ما يثمن وينمي ايجابياته، بعد نزع غشاوة السوداوية الذاتيّة وحرفة البرّاح الذي يروّج لبضاعات مغشوشة للاثارة والتمويه، والموقفان شائعان على درجات في المنطقة، وكلاهما عقبة أمام غرس الحداثة بمعانيها السياسية والثقافية والمجتمعية، فالتخلف حالة عامة ومعدية مثل الأمراض المتنقلة والحدّ من آثارها على المدى الطويل يتطلب من النخبة تخصيب الأرضية المجتمعية وغرس بذور الحداثة في المؤسسات القاعدية للمجتمع. لا شك أن الديموقراطية هي الأرضية التي تتطور فيها الحداثة بحكم الشراكة بين النخبة في السلطة أو المعارضة وبين تنظيمات المجتمع وما توفره من هامش لحرية الرأي والموقف من القضايا التي تهم الناس، فإذا تمّ تضييق ذلك الهامش حدثت هزات ارتدادية تقلل من حظوظ السلطة للبقاء فيها أو العودة إليها. القليل يصدّقون اليوم أنّ الديكتاتوريات التي عرفتها الانسانية في تاريخها الحديث هي الرائدة في تحديث بلدانها كما يشاع عن هتلر الذي أوصل بلاده إلى الدمار والتقسيم، وسالكوديوس فرانكو الذي انتصر في حرب أهلية ولكنه أخرج إسبانيا التي كانت امبراطورية البحار من مجالها المتوسطي وكادت أن تلحق ببلدان العالم الثالث، و مثله سالازار ونظراؤه في جنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية وكلها كان أغلب المبدعين والعلماء فيها من المعارضين للاستبداد، وقد دخل في سلوكات الحداثة منذ نهاية القرن الماضي مسألة حقوق الانسان وحرية التعبير والتعددية السياسية التي تخضع في بلدان الحداثة إلى ما يعرف بالمصالح العليا للدولة، وتستخدم باعتبارها سيف ذو حدّين، حدّ للضغط والابتزاز وحدّ آخر للاقتراب من الشعارات والديباجات الإعلانية. نقول أغلب لأن النخب ليست كتلة واحدة صمّاء إذ فيها تشكيلات تنتمي إلى مدارس وأخرى إلى مصالح وثالثة إلى روابط جهوية وحتى قبلية، علنية أو متسترة، كما هو الحال في المناطق المتخلفة من العالم، وحتى المتقدمة من العالم، فقد انتقلت الرئاسة من بوش الأب إلى بوش الابن ويتوارث اللوردات في بريطانيا الصفة داخل عائلة الأعيان، وهو ما لن تتقبله على أغلب الظن الأجيال الحالية والآتية من الجزائريين، فضلا عن ظهور نزعات كامنة نحو الانفصال كما هو الحال في بريطانيا ( إسكوتلندة) وأسبانيا (كاتا لونيا) وكلاهما من الامبراطوريات التي هيمنت على عدة قارات. للجزائر مرجعية دائمة في بيان الثورة المؤسس وفي أرضية الصومام، وهما معا إرادة وتصور لبناء ديموقراطية اجتماعية في إطار مبادئ ومثل ديننا الحنيف وتجربة شعبنا التاريخية التي ينبغي على نخبنا النظر في مسارها واستخلاص دروسها وتجاوز التنويه اللفظي والمناوشات حول المواقع في ماضي صنعه الكثير من الشهداء والرجال والنساء العاديين، إن استخدام أحداث في الماضي وخاصة أثناء الثورة في مجادلات حول تقييم الحاضر، لا يخدم الماضي وتاريخنا المشترك ولا يفيد في حلّ قضايا الخلاف في الحاضر، فالفاعلون في الماضي أو الحاضر ليسوا كلهم من الملائكة ولا من الشياطين، إن التقييم وإعادة التقييم والنقد المجرّد من الأهواء والإغواء تعتبر كلها من الطرق الموصلة للحداثة ولعقلنة الماضي والحاضر والتقدم نحو المستقبل، أي بناء الحداثة وبناء مجتمع الحرية والعدالة والتقدم، الذي ضحّت وناضلت من أجله النخبة الثورية من الشهداء والمجاهدين الأوفياء، أليس الأمل مفتاح المستقبل، كما جاء في إحدى روائع جبران خليل جبران؟ انتهى