يتلهّى بنا كثيرا سياسيونا ودعاتهم ومبشّروهم والسائرون في ركابهم، عندما يحرّضوننا على الثورة الجوفاء ضد جاهل أو مريض أو متربص أساء لديننا، ويعمّقون إصرارهم على تسفيرنا في تلك الملهاة، بافتكاك فتوى لا تقتل الجاني ولكن تصيب الإسلام بكل الأوصاف المنحطة المنفرة الجاهزة من تخلف وعنف ودموية يعتقد الكثير من المتطرفين الغربيين، أن الإسلام هو الدب الحقيقي النائم الذي يهدد الغرب، ويجب إنهاؤه أو إضعافه أو تأجيل يقظته إلى ما لا نهاية، ولا يزالون يبحثون عن أدلة إثبات تؤكد صدق مزاعمهم، حتى جمعوا له مجموعة من الصور المنفرة، بعضها ُأعد من طرفهم باحترافية وإحكام، وبعضها هو نتيجة طبيعية للتخلف الذي فرضوه على أهله منذ فترة الاحتلال الطويلة، وبعضها الثالث أفرزته سياسة الحكم العربي المستبد والتي تتنافى كلية مع روح الإسلام وجوهره، فظهر في الغرب- بفضل وسائل الاتصال الحرة في التحرك الموجهة في المضمون- كأنه عنقاء تهدد البشرية في حضارتها بالدم والتدمير وإعادة الإنسانية إلى عصورها الأولى، حتى أصبحت حالة الإذلال التي يتعرض لها المسافر العربي المسلم في نقاط العبور الغربية، والتي وصلت حد تعرية الفرد من المخيط والمحيط، علامة مميزة أدخلته في مأساة حقيقية، لم تعرفها بقية شعوب البشْرات والديانات والثقافات الأخرى . تشتعل جغرافيا المسلمين بالاقتتال أو الانتحار أو التدمير الذاتي، ولا يكاد يخلو بلد عربي أو إسلامي من هذه »الظاهرة« حتى ارتبط الإسلام في نظر الرأي العام الغربي بالدم والعنف والهمجية، وأصبح كل مسلم صنما لا يتحرك إلا وسط الجثث أو مشروع انتحاري، وعمّق العرب والمسلمون- في رقعتهم الواحدة التي جزّأها الوزيران الانجليزي والفرنسي سايكس وبيكو قبل منتصف القرن الماضي- هذه النظرة بشدّ الحكم الرسمي الشعوب العربية والإسلامية إلى التخلف المركّب، من خلال خلق تناطح بين متضادين متناقضين: يدعو أحدهما إلى العودة بالمجتمع قرونا موغلة في الخلف، ويحاول ثانيهما الهروب إلى الأمام بذات المجتمع نحو هوّية جديدة لا مكان لها في الجغرافية الحضارية للأمة، وبين نزعة الهروب في الاتجاهين المتعاكسين، انزلق كثير من الشباب نحو ركوب العنف من أجل إحداث تغيير قد يكون غير واضح الملامح والمعالم والأهداف، فسالت دماء غزيرة لا يدري أصحابها بأي مصيبة ابتلوا، ولكنها جرفت قيم الإسلام السمحة السامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، من تقديس للنفس البشرية التي حرّم الله إيذاءها، إلى الدعوة إلى التعلم والحضّ على العلم الذي جعله الطريق المستقيم لصلاح الدنيا ومعرفة الخالق . هل كان لمؤلف الآيات الشيطانية، أو لصاحب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، أو لمنتج فيلم »رعب الإسلام«، أو لأولئك الذين استطاعوا إقناع الرأي العام السويسري بمنع المآذن وغيرهم، أن يكون لهم كل هذا الصدى العالمي لو لم يرفعهم المسلمون بما ظنوا أنه خدمة للإسلام عندما أعادوا نشر تفاهاتهم التي لا ترقي لدى العقلاء إلى مستوى الرد، لقد كان هؤلاء أفرادا مغمورين قد لا يتعدى ذكرهم حدود مدنهم الصغيرة، فإذا بهم يصبحون من أشهر رجالات هذا الزمان، بفضل سذاجة المسلمين الذين تصوّروا أن هدر دم الأول، وتهديد الآخرين بالقتل، إنما سيزيد الإسلام انتشارا وتوسعا ويحميه من المتربصين به والمناهضين له، بينما يؤكد الواقع أن الإسلام ازداد الخناق عليه بعد هذه التصرفات، من خلال محاصرة المسلمين في أراضيهم الطاردة، وتحويل بلدانهم إلى سجن كبير، ُتؤجَّج فيه الصراعات والاقتتال بين نزلائه، الذين احتكموا إلى شياطينهم في أغلب الحالات، بينما لم ُيحكّموا روح الإسلام فيما اختلفوا فيه إلا ما ندر، وإذا ما عرفنا أن أكثر من 98 بالمئة من ضحايا القاعدة »الإسلامية« هم مسلمون، وأن المرجعية الإسلامية تشظّت إلى مراجع دينية متعددة متناقضة بنكهة سياسية رخيصة، وأن المؤسسات الدينية أصبحت غرفا ملحقة بالقصر الحاكم أو ناطقة باسمه لا باسم الإسلام، تأكد لنا أن الصراع الذي ابتدأه الصليبيون على الإسلام قبل قرون، أتى أكله وهو اليوم متواصل بوسائل حديثة، ولكن بمشاركة مسلمين انخرطوا في حرب الأمة، بألوية سياسية وأيديولوجية وطائفية وعنصرية، فهل نلوم من يجهل الإسلام دينا وحضارة وأخلاقا، وكثير من المسلمين يؤكدون بسلوكاتهم ونمط معيشتهم وتسيير شئون دولهم ومجتمعاتهم الصورة النمطية المسيئة التي صوّرها بهم أعداؤهم ؟ لم ُيبق مسلمون للمسلمين ثوابت في حياتهم، بل حرّكوا كل ثابت في عقيدتهم، فهذه القضية الفلسطينية الجامعة، انشطروا حولها شيعا وقبائل وأحزابا، وتركوا الشعب الفلسطيني يعاني الأمرّين: الاحتلال والحصار، وإذا ما تحرّكوا فإنهم في اتجاه محاصرته أكثر، حتى ثار لفيف من أبناء الغرب الأحرار الذين خافوا على قيمهم النبيلة التي بنوا عليها قوة دولهم الحديثة، من أن يمسها ما أصاب المسلمين من تصدع أضاع القيم والمبادئ، وراحوا يدافعون عما كان يجب أن يصطف حوله المسلمون كلهم أجمعون، فتضامنوا مع الفلسطينيين، وناصروا قضيتهم بدون شرط، كما لو كانوا هم المسلمون، غير أن ذلك كله لم يحرّك فيمن يسمون أنفسهم مسلمين شيئا ولو قيد أنملة، بل ازدادوا انحدارا عندما تركوا مدينة السلام قدس المسلمين وأهل الديانات السماوية الحقيقية في وسط اللهب، تتأوه في قيود الاحتلال والتهويد النجسة، يتفرجون على المسجد الأقصى، يئن فوق مئات الأنفاق الصهيونية التي تؤذن بانهيار وشيك له، وكأنهم خشب مسندة، لم يستطيعوا بهذه الحالة إلا أن يوسّعوا الهوّة بينهم وبين الإسلام الذي يبدو أنهم أجروه لغيرهم أو تخلوا عنه، وأثبتوا أنه ليس بينهم أحد من أحفاد عمر بن الخطاب أو صحبه، كما أنه لا أحد بينهم من ورثة التركة الثمينة لصلاح الدين أو صحبه، إنهم جنس أكثر خطورة على الإسلام ممن أعلنوا الحرب عليه بأشكالها المتعددة منذ سقوط كسرى وقيصر. لو كنت غربيا غير مسلم ما كنت لأفكر خيرا بإسلام يعتبر أولئك عنوانه الكبير، إن لم أكن أحد المناوئين له، وقد اختصره إعلام الغرب بحجة القوة في لحية ولباس أفغاني أو عربي وحلم بتدمير العالم من أجل الانتصار لعصور الظلام ! وما كان ليهدأ بال لمن كانت هذه حاله حتى يحجّم هذه الديانة المتوحشة، وهي التي تمثل خطرا داهما أكثر من خطورة الاحتباس الحراري على كوكب الأرض، هذه حقيقة ما تؤمن به كثرة أو قلة فاعلة في الغرب، وقد وصل العداء بها إلى حد منع طلبة العلم العرب والمسلمين، من الاطلاع على بعض المعارف التكنولوجية الدقيقة والتحكم فيها، خشية استعمالها فيما تزعم أنه تهديد للحضارة البشرية التي نصّب الغرب نفسه وصيا على إلى إحداث كوارث إنسانية ومشاكل تعصف بالعلاقات الدولية، أعتقد أنه كان لزاما على المسلمين قبل غيرهم- من العارفين الصادقين في العالم الحر- أن يعيدوا تصحيح تلك الحقيقة عمليا، وليس بعقد الندوات وتبادل الاتهامات بينهم وبين خصومهم، أو الدعوة إلى إنزال العقوبات حمايتها، بالكيفية التي يراها مناسبة، ولو أدت القاتلة بمن ليس على دينهم ويجهله أصلا، أو بتوظيف النظام الرسمي العربي والإسلامي حوادث التعرّض للإسلام من الجاهلين به سياسيا، وحمل الناس على إفراز مزيد من العداء والكره للآخر إنهم مطالبون بثورة سلمية تخلّص الإسلام- أولا- من القطرية والمذهبية التي قزّمته وشتّته على دول وطوائف تتباوس وتتقاتل، وأن يكونوا في بناء مجتمعاتهم- ثانيا- قدوة لغيرهم يهتدون بهم في حياتهم سلوكا وأخلاقا وعملا وتعاملا. انحاز معظم المسلمين إلى غير الإسلام، فإن كانوا رسميين فقد حوّلوه إلى سجل تجاري، يتاجرون فيه لصالح غيرهم بفوائد شخصية آنية بخسة، لا تقيهم شرّ ثورة شعوبهم في الدنيا، ولا تردّ عنهم عقاب الله في الآخرة، وإن كانوا دعاة وعلماء فقد ركبوا صهوة هواهم، ومالوا حيث مالت رياح الحاكم، وأفتوا بما يرضيه لا بما يرضَى به الإسلام، وإن كانوا عاديين فإنهم أساءوا إليه، من خلال تناقض أقوالهم مع أفعالهم، وتخليهم شبه الكلي عن أحد مبادئه الأساسية وهو الإيمان في القلب وتصديقه بالعمل، هكذا تتألف الأمة من هذه الهجائن، وماذا تنتظر من أمة يدير أمورها حكام مستبدون ظالمون تحت راية الإسلام، ويفتي لها علماؤها بفتاوى الضلالة وتكفير الآخر، سواء كان مسلما أو كان على غير دين الإسلام، وتنشّط حياتَها نخبٌ منافقة تنخر شجرة الإسلام الباسقة، إنها أخطر على دين الله من أولئك الذين ناصبوه العداء، وتوارثوه جيلا بعد جيل، وجب على الصّدقاء من أبناء هذه الأمة، أن يستعجلوا العمل أولا وثانيا وثالثا على إنقاذ الإسلام ممن يلبسون لبوسه مندسين بين صفوفهم، قبل أن يولوا وجوههم صوب العدو، فهو معلوم ومهمته معروفة ومكانه لا يخطئه أحد ...