الموقف الرسمي الفرنسي الحالي أو بعبارة أدق الحالة الساركوزية السائدة إزاء تحرّك البرلمان الجزائري، تشبه حالة المجرم الذي حاصرته العدالة بجميع الأدلة والشواهد والشهود على ارتكاب الجريمة، وهذه الحالة التي هي نوع من جنون الهروب إلى الأمام من شأنها أن تزيد في توتير علاقات الشعبين اللذين أساء لهما كثيرا الإصرار الأحمق على التنكّر لجرائم الاحتلال الفرنسي الفظيعة. أن يأتي الشيء متأخرا أفضل من ألا يأتي، هذه مقولة يصلح إسقاطها على المبادرة الشجاعة لأكثر من مائة نائب من نواب البرلمان الجزائري، والخاصة بتقديم مشروع قانون يجرّم الاستدمار أو يعرّف الاحتلال على حقيقته في الجزائر، كانت الدعوات قد ارتفعت من قبل تطالب بها، وزاد الإلحاح عليها منذ إصدار فرنسا الرسمية، قانونا يمجّد ظاهرة الاحتلال المقيتة المرفوضة شرعيا ووطنيا وأخلاقيا وقانونيا، وكأن فرنسا بقانونها الشاذ ذاك، تريد أن تثبت للعالم أنها وفيّة لماضيها البشع، المتّسم بكل أنواع الوساخة والهمجية، خاصة في الجزائر التي بدأت فرنسا احتلالها لها باستعمال كافة أدوات القتل الشامل للجزائريين، وأنهته بتوظيفها لآخر ابتكارات أسلحة الدمار الشامل ضدهم، فكانت مائة واثنان وثلاثون عاما ليلا حالكا، عانت فيه أجيال وأجيال من الجزائريين ما لم تعانه شعوب كثيرة مجتمعة، تعرّضت لأنواع مختلفة من الاحتلال، وقدّم الجزائريون ملايين من الشهداء على امتداد هذه الحقبة، قبل أن يفتكوا حريتهم ويبعثوا دولتهم من جديد ومع ذلك مازالت فرنسا إلى اليوم تقتل بمخلفاتها، سواء كانت قنابل مزروعة في مواقع مجهولة عبر مناطق عديدة من الجزائر، أو إشعاعات نووية انتشرت إلى أوسع مساحة، بعدما اختطفت الكثير من الأقربين إلى مواقع التفجير، أو كانت فكرًا تشظّى وأصبح نتوءات تضرب في خاصرة الجزائريين، كلما عزموا على إرغام الجاني كي يتوب عن جريمته ثابتة الأركان. فرنسا التي لم تستح من تقنين عارها في الجزائر، ثارت ثائرتها للتحرّك البرلماني الجزائري، ومارس وزير خارجيتها حماقاته السياسية- كما أصاب بذلك أحد النواب الجزائريين- عندما حاول إهانة الشعب الجزائي، من خلال محاولته التقليل من المبادرة الوطنية بقوله: إن البرلمان غير قادر على إصدار قانون يجرّم »الاستعمار« وكأني بهذا الشخص الغبيّ يظن أن الجزائر ما زالت محميّة فرنسية أو عمالة من عمالاتها، ولم يسمع حتى لأحد نواب حزبه الاشتراكي السابق، وهو يقول له: إن القانون الجزائري المنتظر هو رد طبيعي على قانون تمجيد الاحتلال، بل أكثر من ذلك- يقول النائب- هل ُيعقل ألا ترد علينا الجزائر بقانون مضاد؟ ويؤكد خطأ السياسة الفرنسية في إدارة ملف العلاقات الجزائرية الفرنسية بقوله: نحن نسير في الاتجاه المعاكس، لكن يبدو أن وزير خارجية باريس وأحد خونة حزبه الاشتراكي، وجد من يؤازره في ضلاله فهذا وزير الهجرة والهوية الفرنسي، يستنكر استصدار قانون تجريم الاحتلال الذي يرى أنه إهانة للجيش الفرنسي والحركى وكل من أعان الإدارة الفرنسية، على إبقاء الاحتلال قائما في الجزائر المدة التي عاث بها وفيها فسادا، ولم يبخل هذا السفيه بنصح الجزائر، بأن تتجاوز قضية الماضي! ولأن فرنسا أحسّت على ما يبدو بجديّة المسعى الجزائري وعزم الجزائريين هذه المرة على استرجاع حقهم الثابت والمشروع، فإن كاتب الدولة للدفاع وقدماء المحاربين، يدخل الموضوع من باب إعلانه عن إنشاء مؤسسة حول »"ذاكرة حرب الجزائر« كان قانون العار قد أشار إليها، وهو ما أثلج صدور الحركى والأقدام السوداء، ممن يريدون الحديث فقط عما يصفونه بأحداث ما بعد توقيف القتال، وترْك صفحة القرن وثلث القرن لعبث مؤرخي الفكر الكولونيالي، يكتبون فيها ما يشاءون ويقرّرون ما يريدون . شهر فيفري هو من بين الشهور الأكثر حضورا في تضحية الجزائريين من أجل الدفاع عن أرضهم وهويتهم، حتى جعلوا من أحد أيامه- وهو الثامن عشر( 18') منه- يوما للشهيد، وإن كان الشهداء يعيشون فينا وبيننا كل أيام السنة، ففي بدايته قنبلت سبع وعشرون (27) طائرة فرنسية من نوع ب(27) ساقية سيدي يوسف التونسية، التي كانت تأوي التونسيين والجزائريين المهجّرين من وطنهم، ودكّت سوقها في ساعة الذروة، لتمزج دماء مئات التونسيين والجزائريين في تلك الواقعة بأطنان من القنابل والمتفجرات، وفي منتصفه أطلقت يرابيعها المشئومة، في منطقة رڤان وعين إيكر ضمن أربعة (04) تفجيرات سطحية، تعادل قوّة الواحد منها أربع (04) مرات قوة قنبلة هيروشيما اليابانية، التي قضت على خمسة وأربعين ألفا، وأربعة عشر(14) تفجيرا باطنيا قوة الواحد أربع عشرة (14) مرة قوة تلك القنبلة، مما أحدث تصدّعات وتشققات في الجبال التي حفرها الجزائريون مرغمين، وأجريت فيها التجارب التي كان السكان كلهم فئران تجارب لها وقد توسعت رقعة المس بالإشعاع، إلى مسافات بعيدة من مواقع التفجيرات، حتى أنه لا توجد عائلة جزائرية واحدة من سكان المنطقة، إلا وبينها مصاب أو أكثر بوباء فرنسا، غير أنه حسب مصادر متطابقة، تمّ تسجيل ما يزيد عن اثنين وأربعين (42) ألف معاق ممن أحصوا، بينما يبقى الذين قضوْا أو الذين يعيشون بآلام أكثر من ثمانية عشر(18) نوعا من السرطانات، مشوّهين أو يلدون نسلا أكثر تشويها خارج دائرة الأرقام، يتأوّهون متشبثين بأطراف حياة لم يعد فيها ما يروقهم، ولا يتذكرهم الإعلام إلا في يوم محسوب من هذا الشهر، الذي سيظل رغم ذلك شهر الشهادة على ُجرْم فرنسا في الجزائر وشهر تأكيد جرائمها، عندما أقرّت فيه عام خمسة وألفين (2005) قانون تمجيد الجريمة. فرنسا ما زالت ُتلحق الأذى بالجزائريين وهي التي أنهت الحياة في المنطقة المقصوفة نوويا لمدة يقول الخبراء إنها تزيد عن الأربعين(40) قرنا، مع خلق أمراض عابرة للأجيال، لم تر حرجا في التنكر لضحاياها، حتى وهي تسنّ قانونا لتعويض ضحايا تلك التجارب من الفرنسيين الذين عاشوا بالمكان، سواء كانوا عسكريين أو عاملين بمختبرات تلك التجارب، وهو استهتار آخر بالأمة الجزائرية، من خلال إقصاء الضحايا الجزائريين الذين حجّمهم القانون وفرض عليهم شروطا تعجيزية للاستفادة المادية، مع ترك المنطقة- التي ظلت تتوسّع بفعل تغيّر الرياح وتقلبها- مشتلة لأمراض لم يعرفها القاموس الطبي بعد، وقد تكون نظرة الرئيس ساركوزي الجديدة للعلاقات الثنائية أحد الأسباب الرئيسية في ارتفاع درجة التوتر إلى مستويات خطيرة، فهو يعتبر نفسه مقاولا لدولة تبحث عن هويتها أكثر منه رئيسا لبلد ظل الفرنسيون يفتخرون بعراقته، ومن ثم فإن الذي يعنيه هو تحقيق أكبر ربح مادي بأية وسيلة دون دفع التكاليف المطلوبة، وقد استشرت هذه »الفلسفة« الساركوزية في بعض القطاعات السياسية والمنابر الإعلامية، غير أن الورشات التي فتحها الجزائريون لهذا المقاول المغامر، وأعادت له الحياة على أكثر من صعيد، هي بيد الجزائريين الذين يطالبون بحقهم التاريخي، ويمكن أن يفلسوه في أي لحظة كما أربحوه دون أن يسألوه عن نجاعة شركاته ومؤسساته وعمل لويباته في الجزائر . لم يبق أمام هذه الحالة المحزنة- التي تريد فرنسا أن تكون دائمة- إلا أن تصطف الجزائر الرسمية، وراء المبادرة الشرعية والقانونية التي شرع فيها نواب المجلس الشعبي الوطني، بل وأن تتصلب في مواقفها وهي صاحبة الحق المقدس لأن هناك فرقا كبيرا بين الثابت والمتغير في العلاقات الدولية، لا يجب أن تحتل المصالح الآنية المؤقتة مهما كانت أهميتها مكان المبادئ التي هي نتاج تضحيات أجيال وأجيال من الجزائريين، وعليه فإني أعتقد أن مستقبل العلاقات بين الجزائر وجارتها الشمالية اللدود، يجب أن ُيرهن باعتراف صريح لا ُلبْس فيه من طرف فرنسا الحالية، بالجرائم التي اقترفها الاحتلال في حق الجزائر أرضا ودولة وهوية والاعتذار الصادق عن كل ذلك، والتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي تسبب فيها ذلك الاحتلال، إذا ما أرادت للعلاقات أن تستقيم بينها وبين الجزائر، وعندما تعبّر عن حسْن نيتها بتسليم خرائط كل الأماكن المبوءة بالقنابل والنفايات النووية قبل فوات الأوان، والشروع في إعادة أرشيف الدولة الجزائرية التي أطاحت بها في لحظة ضعف من الزمن، والالتزام المؤكد بتسليم أرشيف الجزائريين منذ إصابتهم بآفة الاحتلال، عندما يتم ذلك فقط يمكن للجزائريين أن يقولوا: إن عهدا جديدا لصالح الشعبين والأجيال القادمة قد بدأ العدّ له فعلا، خارج الحسابات السياسية الضيّقة التي ظل يتحكم فيها أصحاب الإرادات المريضة والنوايا السيئة ...