»واش أدا ربكم إلى أوسلو؟«. كذلك صرخ أحد السياسيين الجزائريين في وجه مسؤول فلسطيني على إثر تقديمه لمحاضرة حول مسار المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية. عندما سئل السياسي الجزائري، بعد الخروج من قاعة المحاضرات، عن سبب لجوئه إلى اللهجة الجزائرية وبلكنة سطائفية لطرح سؤاله على المسؤول الفلسطيني، أجاب بأنه لم يجد أفضل من ذلك للتعبير عن غضبه من الوضعية المزرية التي هبطت إليها القضية الفلسطينية. المشكلة، بالنسبة للسياسي الجزائري، هي أنه لم يجد كيف يفسر هرولة القوم نحو حلول لا تخدم سوى العدو ولا تعود على شعوب المنطقة سوى بالهوان. في كل مرة، وبنفس الطريقة وكأن التاريخ يعيد نفسه، يكررون نفس الأخطاء ويرتكبون نفس الخطايا التي تعيد كل القضايا العربية إلى أسوأ مما كانت عليه في السابق. قبل أوسلو، تمكنت القضية الفلسطينية من كسر الحصار الذي ضرب عليها منذ 1948، ووصلت إلى الرأي العام العالمي كقضية شعب يعاني من اضطهاد الصهاينة. انتفاضة أطفال فلسطين وقتها، فتحت أعين العالم على حقيقة القضية الفلسطينية، حيث كان سكان الأرض يتابعون يوميا بعضا من ممارسات إسرائيل التي كانت تقدم على أنها واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان وسط منطقة من الهمج المتخلفين. أطفال الحجارة قدموا، بتضحياتهم، صورا رائعة عما يسمى بالحرب الغير متوازنة، حيث الأطفال يواجهون العساكر المدججين بالأسلحة، والحجارة ترمى على الدبابة. صور الجنود إسرائيليين وهم يكسرون أصابع الأطفال حتى لا يتمكنون من رمي الحجارة ثانية حركت ضمائر العالم الغربي. تضحيات الأطفال الفلسطينيين هذه، أجبرت وسائل الإعلام الغربية، المساندة دوما لإسرائيل، على نقل بعض الحقائق الجزئية التي أذهلت الرأي العام العالمي. انتفاضة الأطفال، حققت للقضية الفلسطينية ما لم تحققه لها كل الجيوش العربية في حروبها ضد إسرائيل. لأول مرة، منذ بداية الصراع الإسرائيلي-العربي، يهزم الجيش الإسرائيلي على الأرض، إذ عجز عن القضاء على الانتفاضة كما هزمت دولة إسرائيل إعلاميا فقد بدأت المظاهرات المناوئة لها تنظم في معظم العواصم العالمية. أمام عجز الترسانة العسكرية الإسرائيلية أمام حجارة من سجيل، بدأ الحديث لأول مرة، في إسرائيل، عن إمكانية التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعتبرها لحد ذلك الوقت كحركة إرهابية، وككل مرة تكون فيها إسرائيل في وضعية حرجة، سارعت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى تبني مسألة المفاوضات بين الطرفين وسعت إلى ذلك بمساعدة أصدقائها العرب الذين بدأ الخوف ينتابهم من انتقال عدوى الانتفاضة إلى شوارع مدنهم. من أجل إطلاق أولى جولات التفاوض المباشر، كان شرط إسرائيل أن توقف منظمة التحرير الفلسطينية الانتفاضة، وهو الشرط الذي استجاب له الطرف الفلسطيني، وكانت هنا الضربة القاضية لكل القضية الفلسطينية. يومها، رأينا في شرط إسرائيل بتوقيف الانتفاضة تكرارا لفكرة "سلم الشجعان" الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي ديغول يوم وجد نفسه عاجزا أمام قوة الثورة الجزائرية وصمودها وتصميم الشعب الجزائري على الاستمرار في تقديم المزيد من التضحيات. وكانت نصيحة الكثير من الجزائريين للأشقاء في فلسطين أن هذه الثورة الجزائرية أماكم خذوا منها واستفيدوا من تجربتها، وكان الرأي أنه لو استجابت قيادة الثورة الجزائرية وقتها لشرط الرئيس الفرنسي لما استعادت الجزائر سيادتها لحد اليوم لأنه من الصعب جدا إعادة القوة والعنفوان لثورة توقفت عن الكفاح. إنه بالضبط ما حصل مع الانتفاضة، لقد استجابت القيادة الفلسطينية للشرط الإسرائيلي فأوقفت الانتفاضة وبذلك فقدت أهم ورقة ضغط كان من الممكن مواصلة استعمالها حتى تحقيق جل أهداف الثورة. المفاوض الفلسطيني ذهب إلى أوسلو بيدين خاويتين وعاد من هناك بقطعتين (الضفة وغزة) لا وصل بينهما ولا تتوفران على أدنى شروط قيام الدولة الفلسطينية التي حلمت بها قوافل الشهداء من الفلسطينيين والعرب، واتضح في ما بعد أن إسرائيل تخلصت من حمل فلسطيني ثقيل بإنشاء ما سمي بالسلطة الفلسطينية التي هي بدعة جديدة لم يعرف القانون الدولي مثيلا لها، فلا هي دولة ذات سيادة ولا هي منطقة خاضعة للاحتلال. السلطة الفلسطينية الناشئة، منحت صلاحيات أقل بكثير من الصلاحيات التي يتمتع بها رؤساء بلديات في الدول الأوروبية، ومع ذلك هلل الطرف الذي قبل بالتفاوض لما حققه في انتظار المزيد. تمر الأشهر والسنوات والمفاوضات تراوح مكانها فهي تنطلق لتتوقف لتنطلق ثانية وهكذا دون أن تحقق القضية الفلسطينية أية خطوة في اتجاه إقامة الدولة الفلسطينية على ما أتفق على تسميته بأراضي ما قبل جوان سنة 1967، بل الأخطر من ذلك أن فلسطين غدت، في زمن السلطة الفلسطينية، عدة فلسطينات: فلسطين الضفة وفلسطينغزةوفلسطين الخارج وفلسطين الاعتدال وفلسطين الممانعة .. والأخطر في كل هذا، أن الفلسطيني أصبح يقاتل الفلسطيني وفتحت السجون الفلسطينية لاستقبال المناضلين الفلسطينيين وأصبح هناك تنسيق أمني بين أجهزة استخبارات السلطة وأجهزة استخبارات الكيان الصهيوني لتنسيق الجهود في محاربة العدو المشترك: حماس الفلسطينية. في زمن السلطة الفلسطينية أيضا، تقع الحرب في جنوب لبنان، سنة 2006، فيكون الموقف الرسمي الفلسطيني هو نفس موقف عرب أمريكا الذي قال بأن الأمر كله مغامرة غير محسوبة العواقب، لكن المغامرة تنتهي بهزيمة الجيش الإسرائيلي، وعوض أن تغتنم القيادة الفلسطينية الفرصة لتضغط على الإدارة الإسرائيلية المصدومة بأول هزيمة عسكرية منذ إنشاء إسرائيل، فأنها لجأت إلى الضغط على سكان غزة وهكذا يتحول الصراع من صراع ضد العدو الإسرائيلي على صراع فلسطيني-فلسطيني. ثم تقع الحرب على غزة، فتدمر المدينة ويقتل الناس ويحرق الأطفال بالفسفور الأبيض بينما الجزء الآخر من فلسطين، في الضفة، يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه أبدا. حرب غزة وصورها التي أصبحت، في زمن تكنولوجيات وسائل الإعلام والاتصال، تنقل لحظة وقوعها إلى العالم أجمع، عرت إسرائيل، فقد أكتشف الرأي العام العالمي مرة أخرى الوجه الإجرامي للكيان الصهيوني، ثم جاء تقرير غولدستون ليدين نفس الكيان، وبعدها فجرت قضية الاعتداء على أسطول الحرية في المياه الدولية. كل هذا جعل القضية الفلسطينية تعود إلى واجهة الأحداث العالمية مستقطبة اهتمام وتعاطف الرأي العام العالمي. في هذا الجو، يتحرك أصدقاء إسرائيل في المنطقة العربية وفي أمريكا لإنقاذها مرة أخرى من الوضعية الحرجة التي وجدت نفسها فيها، وما موافقة السلطة الفلسطينية بتزكية عربية على الدخول في مفاوضات مباشرة إلا وسيلة أخرى لإنقاذ المشروع الإسرائيلي المعد للمنطقة. في الأسبوع المقبل، نواصل حول ما هو منتظر من المفاوضات المباشرة التي ستنطلق يوم 2 سبتمبر المقبل.