دعيت، قبل أيام، لإلقاء محاضرة عن ''قصة الحضارة'' في رابطة العالم الإسلامي بتورنتو، ثم يعقبها حوار، وقد لبيت الدعوة مشكورا من أجل أن أتعرف على مثقفين مغتربين وأتوغل في تفكيرهم، فالتقيت بجمهرة رائعة من الحضور، وبعد التقديم بدأت أحلل فلسفة قصة الحضارة بدءا بالتعاريف والمعاني وانتقالا إلى تفسير الظاهرة، فالحضارة ظاهرة تاريخية، وانتقلت إلى منظرّيها بدءا بكونفوشيوس قديما وانتقالا إلى ابن خلدون وسيطا، ومرورا بكل من اشبنغلر وتوينبي وانتهاء بهنتيغتون حديثا·· توقفت طويلا عند ابن خلدون الذي دعا إلى (العمران البشري) فالحضارة عنده إنسان ومجتمع ونظام حياة، وليس مجموعة عادات وتقاليد وأسلوب ثقافة·· ثم قلت إن العالم الحديث قد استقى من ابن خلدون نظريته· إن ول ديورانت أرخ تسلسل الحضارات، ولكن توينبي حلل قيمتها وعددها لنا إزاء الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ·· وانتقلت إلى فلسفة الانعكاس الثنائي في التاريخ، فليس ثمّة حضارة تشابه أخرى، فكل واحدة لها شخصيتها مركزا على الحضارة العربية الإسلامية التي نضجت فيها المعاني والآداب والعلوم والفنون والصناعات وأنظمة الحياة وامتلكت أغنى تراث كتابي على وجه الإطلاق، ولكنها اليوم متوقفة عن النمو·· وانتقدت اشبنغلر الذي قال بسقوط الحضارة الغربية في غضون 25 سنة، ولكن خابت أفكاره، فالغرب مازال يمتلك قوته، بل وامتد عولميا ليفرش نفسه ويخترق الكون! ثم استخلصت استنتاجات مهمة مع توجيه انتقادات صارمة للتفكير الذي يلازمنا، وكيف لنا أن نفتح طريقنا نحو العالم من أجل مستقبل أجيالنا·· وأن نكون جزءا من حضارة اليوم، كما هو حال الأمم الأخرى في الوجود· انبرى البعض يناقش هذا ''الموضوع''، فظهرت أمامي نقائض تفكير لا يمكنها أن تستوي عند أناس يعيشون هذا العصر·· فهم ما زالوا يحملون ترسبات ما تربوا عليه قبل خمسين سنة·· بل وقد تأثروا بالموجات السياسية الساخنة التي تعم منطقتنا، وهم يحملونها بالرغم من كونهم يعيشون وراء البحار·· بل ووجدت أن التفكير في ظواهر كبرى يقيسونه سياسيا كما لو كانوا يطوفون على أمواج الأحداث اليومية! وجدتهم يتعصبون·· فكل حضارات البشرية خواء إلا حضارتنا، وإنها حية ترزق وغير متوقفة عن النمو! قلت لهم: حضارة عالم اليوم تكنولوجية ومعلوماتية ومعرفية وهي ظاهرة نظم ومؤسسات متطورة! قالوا: إنها لا تلاؤمنا·· قلت لهم: طيب لا تستخدموا معطياتها وارجعوا إلى أوطانكم إذن·· ما الذي تفعلونه هنا؟ قالوا: نحن جئنا هنا لنبشر لننتشر ونجعل الأرض جزءا منا ونغّير البشر· قلت: وكم ستطول مهمتكم؟ قالوا في غضون 10- 20 سنة فقط·· التفت إليهم أحد العقلاء، فقال يا صحبي إنكم تتكلمون سياسة وضيفنا الكريم يتكلم حضارة·· اسكتوا، ثم هب أحدهم وقال: لماذا وصفت حضاراتنا الإسلامية بالحضارة العربية الإسلامية؟ قلت: هذه ليست مشكلة، فالتسميات متعددة، ولكن كل معطياتها ومنجزاتها وتراثها·· كتب العربية سواء كان صناعها عربا أم كانوا من غير العرب! قال أحدهم: وكيف ستفتقد الجاليات هويتها كما ذكرت ، فنحن سنكبر في هذا العالم ونسيطر عليه·· قلت له: نتمنى أن نكبر في هذا العالم بعلومنا وإبداعنا وفنوننا، ولكن ليس لنا الحق في السيطرة على الآخرين· قال: لماذا؟ قلت له: اسمع إننا سنرحل ويأتي جيل من بعدنا مزدوج الهوية والانتماء هنا في أرض الشتات·· وبعد أقل من ستين سنة، سيأتي أحفادنا وقد افتقدوا كل انتماءاتهم القديمة إلا ما يعلق في أذهانهم من ذكريات الآباء والأجداد كما هو حال عرب أميركا الجنوبية الذين هاجروا إليها في القرن .19 أيّدني أحدهم، ولكن عارضني أكثر من واحد بحجة أن العالم أصبح صغيرا، وأن المستقبل لنا، وأننا نغزو الغرب في عقر داره، وأن الغربيين سيتلاشون ويضمحلون!!! أطرقت قليلا إلى ما يسود من تفكير راهن اليوم في حياتنا العربية والإسلامية·· قلت لهم قبل أن أختتم الجلسة: لا تتوقعوا أبدا أن العالم سيصبح بين أيديكم حتى ولو استخدمتم أحسن الأساليب، فكيف بأبشعها! وأن حضارة العالم التكنولوجية اليوم لا يمكنها أن تتراجع على حساب ما تفكرون به! وأن من يريد أن ينسجم مع العالم، فلا يهيمن عليه، بل ينفتح على الشعوب لا أن ينغلق لوحده بأزيائه وتقاليده·· وأن من يريد أن يبني له حضارة في الدنيا، فليرجع من حيث أتى·· يرجع إلى بلاده ليخدمها ليل نهار·· وليصلح مشاكله الداخلية الكبيرة قبل أن يصدر شعاراته إلى العالم·· العالم سوف لا يلتفت إلى أناس خاملين لا يعملون ولا يعرفون ماذا يريدون ! نحن اليوم بأمس الحاجة إلى بناء الإنسان في مجتمعاتنا، وأن نؤمن بأن الأيام تتداول بين الناس·· على دولنا ومجتمعاتنا مهام عدة في إصلاح نظمها وتربويات أبنائها وتحديث حضارتها وتنمية تفكيرها·· إنها مدعوة إلى تحسين ظروف الإنسان وأساليب عيشه وكرامته وتحصيل حقوقه قبل أن تتخيلوا أنكم ستسيطرون على العالم·· إذا كنتم تؤمنون بقصة الحضارة، فاعلموا أن أمما وشعوبا على الأرض·· كلها تسعى من أجل تحقيق رؤية ابن خلدون في الذي اسماه ''العمران البشري''· فهل اتسّع أفق تفكيركم قليلا وقرأتم عمق ما يريده الرجل رحمه الله؟ أشكركم جدا، فلقد تعلمت على مدى الساعتين الشيء الكثير·