وهي اللوح والمحبرة أو ''الدواية '' كما يسميها أهل منطقة سوف، ومع ظهور طرق جديدة في التلقين كاللوحة البيضاء والكراريس بدأت الكثير من مدراس القرآن بالمنطقة تبتعد عن الطابع التقليدي لتدريس وتحفيظ القرآن الكريم، وتتجه نحو الطابع الحديث للتدريس• أكثر شيء يشدك عند رؤية المدارس القرآنية في الولاية أنها بدأت تأخذ شكلا مشابها تماما لحجرات الدراسة للمؤسسات التعليمية، وهو ما أفقد التعليم القرآني نكهته المعهودة•• وهي الجلوس على الأرض أو الحصير ومسك اللوح وترديده لعدة مرات حتى يحفظ ويعرضه المتعلم في الختام أمام المدرسة القرآنية، أو''نعمسيدي'' كما يسميه المتعلمون في مدارس القرآن الكريم• وسائل الإعلام وراء تراجع الإقبال على المدرس القرآنية رغم امتلاك ولاية الوادي إلى حدود 40 مسجد ومدرسة قرآنية في آخر إحصاء رسمي لمديرية الشؤون الدينية بولاية الوادي، إلا أن عملية الإقبال على حفظ كتاب الله شابها الكثير من الغموض وتراجعت إلى حدود قياسية وصلت إلى العزوف في الكثير من المناطق•حاولنا في هذا الإستطلاع رصد رأي شريحة الأئمة والمدرسين في مدراس تحفيظ كتاب الله حول هذا المشكل، فوجدنا فارقا شاسعا بين المدراس القرآنية في العهد الاستعماري والعشرات التي تلتها إلى حدود سنة ,1990 أين ظهرت طرق جديدة في التدريس كانت وراء تراجع نسبة الإقبال على المدارس القرآنية• وقال لنا الإمام جمال، أحد مدرسي القرآن الكريم منذ الستينيات، إنه في تلك السنوات كان جميع الصبية والشباب لا يعرفون شيئا آخر عدا المدرسة التعليمية والجامع أو المدرسة القرآنية، وحتى اللعب•• كان محظوظا من يسمح له والداه باللهو لساعة فقط، فالكل كان يعيش حياة كالنحل• وأضاف أن الطفل الذي يتغيب عن المدرسة القرآنية كان يتعرض لعقاب شديد من طرف والده وكذا المدرّس، حتى أنه نادرا حسبه ما تجد شابا بالمنطقة لا يحفظ جزءا من القرآن• وكانت نسبة حفظ القرآن الكريم عالية جدا، حسب الإمام جمال، ففي كل سنة يتخرج العشرات من ختمة القرآن الكريم، غير أنه ومع تطور الزمن وظهور الفضائيات ظهرت معها العديد من السلبيات أبرزها عزوف الأطفال عن التوجه نحو كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، لظهور جيل يعتمد بشكل كبير على الترفيه والراحة في حياته اليومية، انطلاقا من تأثرهم بالعديد من الأفكار الغربية التي روجت لها وسائل الإعلام المختلفة• وأشار إلى أنه في الوقت الحاضر نادرا ما نسمع عن شاب حفظ القرآن الكريم، خصوصا في المناطق الحضرية والمدن، لأن سكان القرى حافظوا بشكل كبير على الشكل السابق في تحفيظ القرآن الكريم• في رحلة بحثنا عن هذا التطور الحاصل في تحفيظ القرآن الكريم اتجهنا صوب إحدى القرى التي قيل لنا إن بها أحد الأئمة المتطوعين العاملين في حقل تحفيظ كتاب الله من العهد الاستعماري، قصدنا عمي جدير محمد الصغير بقرية الضريميني ببلدة اميه ونسة النائية• وجدنا عمي محمد بجبته البيضاء وحوله عشرات الصبية يحفظون كتاب الله على يديه، انبهرنا بتلك الصورة الرائعة التي افتقدناها بالمدينة، إقبال أطفال في مقتبل العمر على تلاوة القرآن الكريم وحفظه• عمي جدير كنز في صحراء منسية هو من أقدم مدرسي القرآن في ولاية الوادي الأحياء، معلم قرآن متطوع منذ سنة 1964 ولا يحصل على مقابل مادي لتحفيظ كتاب الله للناشئة وإمامة المصلين في مختلف المساجد التي داوم فيها، بدءا بقرية رحمون الشابي بالطيبات في ولاية ورفلة وقرية لقويرات بورماس، ومرورا بمسجد التقوى بحاسي مسعود، وعين الشيخ بالمغير، وزاوية لعلية بالحجيرة• بدأ عمي محمد البالغ من العمر 62 سنة تدريس القرآن في هذه المدرسة منذ سنة ,1996 التقيناه بمنزله الكائن بقرية الضميريني النائية 45 كلم غرب الولاية، اتخذ جزءا منه لتعليم القرآن الكريم لأزيد من 100 حافظ في ظروف جد صعبة، جدار واحد سطحه وجنباته مغطاة بجريد النخيل• وتحدث أحد كبار مدرسي القرآن الكريم عن عمي جدير أنه معلم قرآن متطوع، اتخذ من منزله مدرسة قرآنية لتعليم القرآن للناشئة، حيث يقارب عدد الحافظين حوالي 100 حافظ أغلبهم بنات وحتى أمهات• وهي اللوح والمحبرة أو ''الدواية '' كما يسميها أهل منطقة سوف، ومع ظهور طرق جديدة في التلقين كاللوحة البيضاء والكراريس بدأت الكثير من مدراس القرآن بالمنطقة تبتعد عن الطابع التقليدي لتدريس وتحفيظ القرآن الكريم، وتتجه نحو الطابع الحديث للتدريس•
ورغم هذه الأوضاع الصعبة والمزرية بقي مصرا على تحفيظ كتاب الله للناشئة، حيث يداوم ما يزيد عن 100 حافظ، خاصة البنات اللائي يمنعهن آباؤهن عن مواصلة الدراسة بعد انتهاء الطور الأول لتنقلهن في ظروف غير جيدة لإكمالية اميه ونسه التي تبعد نحو 18 كلم• ويقول عمي محمد إنه ''ببركة هؤلاء وعائلاتهم أسترزق وأعيش فهم كنزي الذي أكتنزه ليوم ألقى فيه خالقي''، لكن الوضعية المزرية لمدرسته باتت حسبه تتطلب تدخلا عاجلا من طرف الجهات الوصية، قبل أن تنهار على الصبية• فعمي جدير معوز وليس لديه الإمكانيات المادية لترميمها فلا مروحيات حديثة ولا مدافىء ولا حصير فاخر، بل يعتمد بشكل بارز على ''الصير'' المصنوع من السعف وكذا جريد النخل لتغطية هذه المدرسة القرآنية، وخلال هطول الأمطار يضطر للتوقف عن الدراسة بسبب عراء المكان الذي يدرسون فيه• استرزق من الرزق الذي كتبه لي خالقي منذ 1964 أخذنا الفضول لنسأل عمي جدير عن مصدر رزقه ومصدر قوت عياله، خصوصا أنه إمام متطوع منذ سنة ,1964 فتحدث لنا بعبارات افتقدناها كثيرا في أوساطنا الشعبية، قال بالحرف الواحد ''إن الرزق على الله ومنذ سنة 1964 اقتنعت بأن تعليم كتاب الله للناشئة وإمامة المصلين يجب أن يكون بالمجان، والحمد لله لم يخيبني ربي طيلة هذه المدة المقدرة ب 44 سنة وطيلة مشواري في أكثر من 8 مناطق بولايتي ورفلة والوادي لم أحس بالضيق''• ويضيف ما يزيد في رغبته في مواصلة تعليم القرآن هو استغلال البنات والأطفال المتمدرسين كل أوقات الفراغ لحفظ كتاب الله، حيث يتعاون رفقة زوجته لتعليمهم• وأشار الى أنه طول هذه المدة لم يتلق أي إعانات من أي أحد أو من أي جهة، و'' أنا لا أنتظرها لأن عملي كما قلت لك لله وعملي طيلة 44 سنة تطوعا أحتسبه لله سبحانه وتعالى، وأجر الله أوفى''• وبلغة الحسرة أوضح عمي أنه رغم مجهوده الكبير للحفاظ على الطابع التقليدي القديم لتحفيظ القرآن الكريم، إلا أنه لم يزره أحد لحد اليوم، وخاطبنا بكل يقين وراحة ''أنا من مبدئي لا يهمني زيارتهم لأن عملي لله وأريد أجره فقط، ورفضت في السنوات الأخيرة منصب معلم قرآن تابع لقطاع الشؤون الدينية والأوقاف لما طلب مني رئيس المجلس العلمي ذلك، لأن ثواب الآخرة أبقى''• ويضيف أنه بحاجة إلى إعانات المحسنين لإكمال إنجاز هذه المدرسة القرآنية المسطحة بجريد النخيل، لكي تكون نموذجا للطابع التقليدي القديم لمنطقة سوف حتى تبقى حذوة للجيل الجديد من الأمة الشباب، وكذا تراثا سياحيا يعكس طابع المنطقة في تحفيظ القرآن الكريم• أما زوجته التي ترافقه في كل جولاته وجهاده في تعليم حفظ القران الكرم لجيل النشء كشفت لنا عن حب وإقبال كبير لبنات القرية لحفظ الله، وحتى العجائز حيث تدرس عجوز لها سبعة أبناء، وذكرت الزوجة أنها أقبلت على فتح قسم لمحو الأمية لهن من أجل تمكينهم من حفظ كتاب الله• ودّعنا عمي جدير وغادرنا قرية الضميريني على أمل أن تتجه السلطات الرسمية بولاية الوادي للإهتمام بالطابع التقليدي لدواوين تحفيظ القرآن الكريم، وإعطائهم الدعم للأئمة المتطوعين المشرفين عليها حتى يكونوا نموذجا يحتذى به لكونهم الحلقة الواصلة بين جيل الأمس واليوم، وذلك حفاظا على الطابع التقليدي لهذه المنطقة، وأملا في أن يعيد هؤلاء عهد الأمس القريب أين كانت المنطقة تعج بحفظة كتاب الله•