يبدو أننا هرمنا فعلا ثقافيا حتى لم تعد العبقرية الجزائرية بشعرائها ومؤرخيها قادرة على مجرد المساهمة في إبداع عمل ملحمي بحجم "تلمسان صدى الإيمان" عمل يليق باحتفالية تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية بداية من سيميائية العنوان الذي يحيلنا على ثنائية الصوت والصدى كان علينا أن نختار الصوت لا الصدى المرجّع المتلاشي. في الجزائر العظيمة لا يجوز أن نتكلم عن الصدى، بل عن صوت الحق العالي الذي ظل جهيرا جهوريا، حين خفتت الأصوات وتلاشت أصداؤها في كل واد، وليس أدل على ذلك من صوت الثورة التحريرية، أعظم ثورات العالم وأكثرها عبقرية.. لا يختلف اثنان في أن الملحمة من ناحية الرؤية الإخراجية التي أبدعها كركلا مبهرة، أسهمت فيها التجربة الإيرانية بمشهدياتها الباذخة وديكوراتها المدهشة.. لكن من ناحية المحتوى تضمن العمل الكثير من الثغرات على مستوى النص وعلى مستوى المضمون التاريخي. كان يمكن تلافيها بقليل من الثقة في الكفاءات الجزائرية من مؤرخين وباحثين كان يمكنهم تقديم الرؤية التاريخية للأحداث كما وقعت.. كما كان يمكن أن تكون مساهمة شعرائنا وكتابنا ذات أهمية لو منحت لهم الفرصة.. قد أكون مخطئا، ولكن هل بإمكان أي كان أن يدلني على اللمسة الجزائرية في ملحمة" تلمسان صدى الإيمان" هل في الأداء الكوريغرافي أم في الألحان الشرقية التي جعلت من هذه الملحمة لا تختلف عن أعمال كركلا السابقة.. أين هي الروح الجزائرية رقصا وغناء، شعرا وتاريخا، إذا استثنينا اللوحة التي شارك فيها نوري كوفي، واستثنينا أصوات المغنين والمؤدين الجزائريين، وهم يلْحنون ويخطئون في حق اللغة ونحوها ومخارجها.. نعم هناك صلة وشبه بين تلمسان وكل مدن الأندلس بفعل التبادل الحضاري، لكن تلمسان ليست هي قرطبة مدينة ولادة بنت المستكفي، حبيبة ابن زيدون كما تظهر في الملحمة.. إن تغيير حقائق التاريخ المتعلقة بموت الكاهنة، وإسلام كسيلة، كما بينت ذلك حدة حزام في مقالها ب"الفجر الثقافي" عدد 17/ 04 /2011، لا تخدم العمل الفني ولا التاريخ، ولا تغير في حقيقة كوننا جزائريين مسلمين اليوم، لذلك فإن هذا الفعل غير مقبول سواء تم بحسن نية إرضاء لضيوف الجزائر، أو تم بنية أخرى الله أعلم بها، لأن العمل هنا لا يتعلق بدراما تاريخية تعتمد على الفنتازيا، وتشطح فيها المخيلة بل يتعلق الأمر بعمل فني حضاري.."، كما يؤكد ذلك كركلا نفسه في حواره مع "الخبر" عدد 20/ 04 /2011 ردا على منتقديه، حيث يقول "لا يهمني كيف ماتت الكاهنة، فنيا، رغم أنني أعرف أن رأسها قطع وأرسل إلى خلفاء بني أمية، ولكن لا يمكن في أي حال من الأحوال تصوير مشهد المقصلة وقطع الرؤوس، كما أنني أعرف قصة إسلام كسيلة وخلفية قتله لعقبة بن نافع، وصداقته للصحابي أبي المهاجر دينار، فأنا بصدد إنجاز عمل فني حضاري، ولا يمكنني أبدا تزوير تاريخ أمة. لقد اشتغلت على عشرات المراجع والكتب التي تسلمتها من وزارة الثقافة بالجزائر، وتمت مراجعة نص الملحمة من طرف كتاب ومؤرخين كبار، وقرأناه معا قراءة متأنية ومتعددة، تفاديا لأي تأويلات مثل التي ذكرت. ولكن ما أردته من خلال الملحمة، هو تمرير رسالة من خلال مشهد موتها، تتمثل في قوة شخصية تلك المرأة العظيمة، التي أحبت بلدها وأرضها، والثابت تاريخيا أن الكاهنة أوصت أبناءها قبل موتها بالإسلام خيرا..". ما يفهم من كلام كركلا هو أنه يدرك حقائق التاريخ جيدا، ولكنه لجأ إلى التحريف لكي يتجنب مشاهد المقصلة وقطع الرؤوس، ولكي يقول إن موت الكاهنة على سرير ناعم أكثر إبرازا لقوة شخصيتها وعظمتها من موتها مقطوعة الرأس.. وهي القائلة "الملكة من تعرف كيف تموت.."، فهل يستقيم مثل هذا الكلام.. يا كركلا؟؟ ما يفهم أيضا من هذا الكلام هو أن الأمر تم بعد العودة إلى الكتب والمراجع التي زودته بها وزارة الثقافة، وبمباركة مؤرخين وكتاب، أغلب الظن أنهم جزائريون، وبعد مراجعة دقيقة وقراءة متأنية.فكيف فات هؤلاء هذا الأمر.. ومن هم؟ وهل هناك حقيقة أخرى ينوروننا بها غير ما نعرفه من المؤرخين الثقات.. ربما أجدني متحمسا قليلا لموضوع الكاهنة لأنني حاولت في روايتي "عتبات المتاهة" أن أوظف تاريخها وقصة موتها، وتلك حكاية أخرى مع الروائي الراحل الطاهر وطار. الخلاصة أننا هرمنا فعلا، حتى لم نعد قادرين على كتابة تاريخنا بأنفسنا.. أحمد عبدالكريم