يسود في الواقع السوري جو من المرارة والخذلان من الموقف العربي العام، وضعفه تجاه ثورة السوريين، والصمت القائم إزاء ممارسات النظام، وما أدت إليه من خسائر بشرية ومادية، تشكل بعض ملامح الكارثة الإنسانية، التي تعيشها سوريا، والمرشحة للتفاقم، إذا استمر الوضع السوري على ما هو عليه من قتل وتدمير وتهجير يقوم به النظام، وبعضه ناتج عن ممارسات تقوم بها جماعات التطرف والعصابات الإجرامية، حيث لا يمكن التسليم بأن ممارساتهم خارج أجندة النظام ولا خارج توجيهاته. وشعور السوريين بالمرارة والخذلان من الموقف العربي ناتج في بعض أسبابه عن الموقف الرسمي العربي، رغم أنه لم يكن موقفا موحدا، حيث كانت فيه ثلاثة اتجاهات من الناحية العملية؛ إذ ناصرت قلة من البلدان العربية ثورة السوريين في إطار سياستها العامة في المنطقة، بينما أغمضت أغلبية البلدان عيونها عن الأزمة ونتائجها، وكأن ما يحصل في سوريا يحدث في قارة أخرى، والقلة الأخرى من البلدان أعلنت موقفا حياديا، لكنها في الواقع دعمت النظام وساعدته، فصارت طرفا غير معلن في الأزمة السورية. والموقف الشعبي العربي لم يكن أحسن حالا من الموقف الرسمي. فأغلب القطاعات الشعبية العربية وأوساط الرأي العام، بدت خارج التأثر المباشر بالأحداث السورية، ولم تشهد البلدان العربية سوى قلة من مظاهر التعبير عن التضامن مع السوريين وفي مواجهة النظام، وقد تكون تلك المظاهر أقل من مظاهر أبدت تأييدها للنظام، منها المظاهر التي نظمتها جماعات من المنحبكجية العرب، تخفت وراء لافتات ”سياسية” أو ”قومية” مزورة، عكست مستوى التدهور العربي العام في ضرورة الوقوف إلى جانب شعب انشغل كل حياته بالهموم والمشاكل العربية، ولم يجد كثير من العرب إلى جانبه عندما وقع في عمق الكارثة. وثمة ما هو أخطر في هذا الشق، يكشفه التوقف عند موقف حزب الله اللبناني الذي دفع بمقاتليه للقتال ضد السوريين، كما حدث في القصير وفي ريف دمشق، وهو ما فعلته قوات لواء أبو الفضل العباس العراقية التي تشارك في القتال مع قوات النظام في جنوبدمشق وريفها، وينتمي إلى سلوك الميليشيات اللبنانيةوالعراقية توافد متطرفين ”إسلاميين” من بلدان عربية وأجنبية، لتنظيم جماعات تنتمي إلى تنظيمات القاعدة في فكرها وممارساتها مثل جبهة النصرة ودولة العراق والشام، التي ترسم لوحة قاتلة للحياة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وقد جعلت هدفها الأساسي محاربة الجيش الحر وتشكيلات الثوار، وإخضاع السوريين، وإجبارهم بالقوة والإكراه على تبني شعار دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية، بدل الدولة الديمقراطية، التي توفر الحرية والعدالة والمساواة للسوريين، وهو الهدف الأول والرئيس للثورة. لقد أدى الموقف العربي العام في المستويين الرسمي والشعبي إلى إحباط سوري عام. وبخلاف نداءات المتظاهرين الأوائل للعرب، دولا وشعوبا، من أجل نصرتهم في المعركة ضد النظام، فإن هناك من السوريين من فقد الأمل بالموقف العربي، خاصة بعد التجربة المرة التي عاشها ويعيشها السوريون المقيمون واللاجئون في بعض الدول العربية، وفي كل واحد منها يعيش السوريون تفاصيل مأساة إنسانية ربما لم يعشها أي من شعوب المنطقة في التاريخ الحديث. ورغم ما تقدم، فإنه لا ينبغي الركون إلى المحصلة السابقة؛ فالسوريون لا يمكن أن يعيشوا خارج الجغرافيا والسياسة، والعرب في دولهم وشعوبهم كذلك. وباستثناء وجود كل من لبنانوالعراق والأردن في الجوار السوري، فإن في هذه البلدان وغيرها من البلدان العربية مقيمين ولاجئين سوريين، ولكل البلدان العربية مصالح مباشرة وغير مباشرة في سوريا، الأمر الذي يعني في كل الأحوال صعوبة تفكيك العلاقات السورية من البلدان العربية وبالعكس، أو إبقاء تلك العلاقات في وضعها الراهن المأزوم والملتبس، إضافة للجوانب العاطفية والثقافية والتاريخية، التي تفرض ضرورة تجاوز الواقع الراهن. غير أن الأهم في ضرورة حدوث تبدل نوعي في علاقات الموقف العربي من القضية السورية، محكوم بما صار إليه الحال السوري واحتمالات تطوره؛ ففي احتمال بقاء النظام على حاله، فإن على جواره العربي أن ينتظر منه سياسة لا تقل عنفا وقسوة عن تلك التي مارسها ضد السوريين، وستكون تجربة تدخلات النظام الدموية، التي قام بها في لبنانوالعراق وفلسطين مجرد بروفات أولية وقديمة عن تدخلات دموية مستقبلية يقوم بها في محيطه العربي، وإذا قدر للنظام أن يذهب، وأن يحل مكانه نظام تحكمه جماعات التطرف من ”القاعدة” وأخواتها، فلن تكون البلدان العربية والمحيط الإقليمي أفضل حالا، إذ ستكون هدفا ميدانيا لنشاطات تلك الجماعات وأنصارها. والحال لن يكون بالأحسن إذا بقي الحال على نحو ما هو عليه الآن من صراع سوري مفتوح على كل التدخلات الإقليمية والدولية، وهو صراع سيولد مزيدا من التداعيات السياسية والأمنية والمآسي ليس في سوريا وحدها، بل في محيطها وفي الأبعد منه. خلاصة القول أن القضية السورية باتت تفرض على البلدان والشعوب العربية وعلى العالم، موقفا جديا ينطلق ليس من الخلفيات الإنسانية والعاطفية والثقافية والتاريخية فقط، ولا من المصالح المستقبلية البعيدة، وإنما من مصالح مباشرة وحقيقية، تتعلق بالأمن الكياني والاجتماعي، الأمر الذي يتطلب تحركا عربيا عاما، ومن دول الجوار خاصة، خارج التقديرات والرؤى الصغيرة والتفصيلية. ومن الحق أن يسعى السوريون إلى بيان هذا الجانب؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعيش خارج الجغرافيا ولا خارج السياسة!