بين خدمة الله.. ومحبته يقول ابن عطاء الله السكندري:”قوم أقامهم الله لخدمته،وقوم اختصهم لمحبته،كلاًّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك،وما كان عطاء ربك محظوراً” المسلمون الصالحون من عباد الله،فريقان.فريق وظفهم الله بخدمة الله أي خدمة دينه،إذ أن الله لا يحتاج إلى من يخدمه،تعالى الله وتنزه عن ذلك،فهو كقوله تعالى:”إن تنصرُوا الله ينصركُم”(محمد) فمن الواضح أن نصرة الله نصرة دينه..فشأن هذا الفريق معرفة دين الله ودراسة شريعته والتبصر بأوامره ونواهيه والنهوض بتطبيقها وتعريف الناس بها،ودعوتهم إلى الالتزام بها،مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهد الاستطاعة وفي حدود الضوابط الشرعية..وأكثر عباد الله الصالحين من هذا الفريق. أما الفريق الثاني فهم من اختصهم الله بمحبته..أي شغلتهم حرارة أفئدتهم بمحبة الله عز وجل عن الالتفات إلى الناس،وعاقتهم عن التفرغ لمحاورتهم وتعليمهم ودعوتهم إلى الله،فهم غائبون بسُكْر هذا الحب عما يلوح لأبصارهم من أحوال المجتمع الذي يعيشون فيه،فأنى لهم أن يتبيّنوا المنكر حتى ينكروه،أو ينتبهوا إلى غياب المعروف حتى يذكّروا ويأمروا به؟!.. وهذا الفريق ينقسم إلى طائفتين: أما الأولى منهما فمنضبطون بأحكام الشرع متقيدون بأوامره وأدابه،ولكنهم منصرفون عن المجتمع والناس إلى ما هم فيه من الأحوال القلبية التي حدثتك عنها،فلا يشغلون أنفسهم بشيء من مشكلات الناس وقضاياهم،لأنهم لا يجدون سبيلا إلى ذلك. وأما الطائفة الثانية فيغلب عليهم الجذب كلياً أو جزئياً،أي دائماً أو في حال دون أخرى، والمقصود بالجذب حالة من عدم الصحو الفكري تعتريهم، فيتيهون بسببها عن ضوابط الشرع وأحكامه. ومرد هذا الوضع الذي يتميز به الفريق الثاني بكلا قسميه إلى تجلٍّ من الله عز وجل على أفئدتهم،يجعلها تتوهج بالحب لذاته العلية. ومشاعر الحب لله عز وجل، جامع مشترك ينبغي أن يلتقى عليه جميع المؤمنين بالله، بعد أن ينالوا قسطاً من معرفته والتشبع بصفاته، دليل ذلك قول الله تعالى: “والذين آمنوا أشدُّ حباً للّه”(البقرة) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:”لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما”. ولكن هذا الجامع المشترك لا يعوق صاحبه عن النهوض بالخدمات الدينية التي عناها ابن عطاء الله في حكمته هذه،بل هو حريٌ بأن ينشّط بها ويعين على النهوض بها على أحسن وجه. إلاَّ أن من الصالحين من عباد الله،من قد اختصهم الله بأمر يمتع به الآخرين، إذ تجلّى على أفئدتهم بشيء من معاني تفضله وإكرامه،بل من رحيق حُبه،فالتهبت بوَقُود المحبة له،ونالهم من ذلك ما لم ينل الآخرين. وإذا تجلّى الله على فؤاد عبده تجلِّي حب ورحمة، تعرض صاحب ذلك الفؤاد لأحوال متفاوتة من الجذب والشوق والحنين إلى الله والحب الشديد له، فإذا فاض القلب بهذه المشاعر، وضاق لضعفه عن الاتساع لها، أورثته حالة من السكر والغيبوبة عن الآخرين،وربما الغيبوبة عن الذات أيضاً. ومحل الشاهد لذلك من القرآن قول الله تعالى لموسى عليه السلام لمَّا أراد رأيته: “ولكن انظر إلىَ الجَبل فإن استقرَّ مكانه فسوف ترانِي” ثم أخبر قائلا: “فلمَّا تجلَّى ربُّه للجَبَلِ جَعَلهُ دكًّا وخرَّ موسَى صعقاً..” (الأعراف). فلقد عجز فؤاده الضعيف عن استعاب ما انعكس إليه عن الجبل من آثار تجلّي الله عليه، فخر مغشياً عليه. فإذا أرسل الله إلى فؤاد عبده نفحة ما من نفحات حبه له.فما ظنك بالحال التي سينتهي إليها هذا العبد؟تتفاوت الأحوال عندئذ،وأقلها تأثيراً على صاحبها أن يعيش من بعدها في عالم من وحدة الشهود (التي شرحنا معناها في الحكم السابقة) ثم هي قد تتجاوز ذلك إلى حالة من الجذب والغياب عن الآخرين، وقد يتيه صاحب هذا الحال عن بعض آداب الشرع أو أداء الواجبات الشرعية عن وجهها.. ولا ريب أنه يغدو في هذه الحال بما لا يأتي منه،إذا أخذ الله من عبد ما وهب فقد اسقط عنه ما أوجب. ولهؤلاء في المجتمعات التي أقامهم الله فيها مهامّ ووظائف خفية،لا تبصر مظاهرها،ولكن ما أيسر أن تتجلى أمامك آثارها. وقد شرحنا من قبل حديث الأبدال الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “..يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب” وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “رب أشعث أغبر،ذي طمرين،تنبو عنه أعين الناس،لو أقسم على الله لأبرّه” فلولاهم لأجدب المجتمع كما تجدب الأرض،و لقصرت جهود العاملين في حقل الدعوة.. والاختلاف في هذه المنح مرده إلى تنوع الوظائف المقربة إلى الله من جانب،والتي يحتاج إليها المجتمع الإنساني من جانب آخر فلو فاض المجتمع بأمثالهم لم يوجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر(وهذا الفريق يمثل الأكثرية أما الفئة الأخرى فتمثل القلة دائماً).. ولا تفاضل بين الفريقين فالأول تميز بالخدمة والثاني تميز بالمحبة قال تعالى “كلاً نمدُ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّك ومَا كان عطَاء ربِّك محظُوراً)(الاسراء). أسأل الله لي ولك أن نكون من أهل الخدمة والمحبة،أما الفئة الثالثة فهي الفئة الضالة أسأل الله لها ولنا الهداية إلى الرشد.. المرحوم الشيخ سعيد رمضا ن البوطي