هل انتهت موجة العولمة التي اجتاحت العالم في العقدين الأخيرين من القرن الماضي؟ هكذا تبدو الأمور على الصعيد السياسي ولا ريب. الولاياتالمتحدة على ما يبدو، ويظهر أنها فقدت شهيتها تماما للتعاطي مع الشؤون الدولية، وانسحبت للتركيز على الهم الداخلي والتفرغ لقضايا الهجرة والزواج المثلي، والضرائب والبطالة على حساب تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط، والصعود الملاحظ للنفوذ الروسي وغيرها من المسائل المتحركة. أوروبا تنغلق على نفسها في وجه كل جديد، ترفض هجرة العاملين إليها من دول العالم الثالث، وتزداد حدة في التمييز العنصري بحجة حماية الوطنية، بينما اقتصادها في أمس الحاجة لأيد عاملة جديدة، كون معدل الأعمار في القارة الأوروبية بلغ حدا مزعجا، ونسبة النمو في معدل السكان سلبية مما يهدد أي خطط اقتصادية وتنموية مستقبلية. كثيرون يعتقدون أن سقوط حواجز العولمة التي بنيت كانت بسبب عدم وجود قناعة موحدة ومشتركة لدى الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الولاياتالمتحدة ككتلة موحدة أمام الامتداد الروسي، والتوغل الصيني في آسيا وأفريقيا ومناطق وجيوب أخرى حول العالم. أميركا وهي التي يعترف ويقر العالم بأنها صانعة ومروجة لفكر العولمة، وخصوصا إبان حقبة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، وهو الذي عرف عهده بأنه كان مفجر ثورة المعلوماتية، ومحرك المعلومات عابرة للحدود، ونفس هذه الدولة لم يعد لديها الاهتمام ولا الرغبة الكافية لتكوين ”الضامن” ولا ”الكفيل” للعولمة، في يوم من الأيام كان المال وشبكة الإنترنت أيقونتي العولمة بامتياز، وكان في ذلك وصف دقيق لوعد العولمة أن تقدم للعالم كله حلا سهلا وبسيطا وموحدا من دون احترام للقوانين السيادية، ولا اعتبارا للحدود الجغرافية المختلفة. ولكن حصل سوء استغلال وعربدة في الاستخدام، وحصلت اختراقات أمنية عظيمة لكثير من المواقع، وحصل الانهيار المالي العظيم الذي بدأ في أميركا، وسرعان ما طال القارة الأوروبية العجوز، شيئا فشيئا تحول حلم العولمة إلى كابوس مؤلم ومكلف للغاية. وبدلا من العولمة وتحرير القطاعات وتحقيق الغايات حصلت ردة فعل عكسية، وحصلت ما يشبه موجة ”تأميم” مهولة لإنقاذ الاقتصاد، وتدخل الرئيس الأميركي باراك أوباما لإنقاذ القطاع المصرفي بشقيه البنكي والتأميني بضخ معونات مهولة ساهمت في وقف النزيف المالي، الذي كان سيؤدي إلى انهيار تام في البنية التحتية المالية للاقتصاد الأميركي، وفعل نفس الشيء مع قطاع صناعة السيارات، وذلك بتقديم معونات وقروض وإعفاءات مكنت من إنقاذ القطاع من الدمار الكامل، وبعد ذلك قامت ألمانيا بقيادة أوروبا بتقديم العون المالي لدول أنهكتها الديون والقروض مثل اليونان وإسبانيا وقبرص والبرتغال ليكون ذلك مثالا حيا على أن الفكر الاشتراكي عاد ”ممارسة” في الدول الرأسمالية، وأنه قد يكون الفكر الرأسمالي أكثر ممارسة اليوم في الدولة الشيوعية الأولى في العالم وهي الصين. كانت الفكرة الرئيسة التي روج لأجلها فكر العولمة، هو أن كل العالم سيستفيد من إسقاط الحدود والحواجز، وتمكين الفرد على حساب الدول، ويقلل ذلك من التعصب والتحزب، ولكن الذي حصل كان هو العكس تماما، وكانت ردة الفعل في المعسكر الغربي بعد الأزمة هو الانكفاء على الداخل ورفع الحواجز والقيود التي ”تحمي” الاقتصاد الوطني، وتعطي ”الأولوية” للصناعة المحلية، وبالتالي تسقط وبقوة صحة دعم وترويج فكرة العولمة التي توحد الدول وتسقط الحدود. الحمى العنصرية التي تجتاح الغرب اليوم بحجة الدفاع عن الأوطان أمام التيارات المتشددة، سواء باسم الحرب على الإرهاب، أو الحفاظ على الثقافات، هي في الواقع خوف من الانفتاح الأممي، وهذا أيضا اختبار سقطت فيه روسيا بشدة، في اختبار أوكرانيا، لأن العولمة كانت تؤكد أن الخلافات بين الدول، لا يمكن أن يتم حلها عن طريق الغزو ولا الحروب، بل عن طريق القانون والتحكيم. العولمة تحتضر وهناك من يعتقد بوجوب دفنها، وآخرون يعتقدون بأن هناك رمقا باقيا بها، وبحاجة لإنقاذ وإعادة الروح إليها. صراع سيحسم للفريق الأقوى، ولكن يبقى التساؤل: أي الوسائل ستستخدم لحسم المعركة؟.