غني عن القول أن رؤية الإسلام مسارٌ مفتوحٌ لاستشعار الجمال - وبالضرورة الإبداع - واستنطاقه واستيطانه واستلهامه والبحث عنه وتنميته بأبعاده المختلفة ومستوياته المتباينة ومجالاته المتنوعة (الروحية والمادية) حتماً ضمن الرؤية النابعة من قلب الإسلام والمنضبطة وفق تصوره، ولا يخفى أن من أبرز خصائص العقل الإبداعي، الإدراك الجمالي، واكتساب القيم الجمالية؛ فالتربية الجمالية درجة ارتقاء للعقل في معراج الفكر وتحليق للروح في فضاء الإيمان الوضيء، فهي توسّع الفضاءَ المعرفي والوجداني، الأمر الذي يجعل مدرِك الجمال أقرب إلى مبدِع وخالق الجمال.فالمبدع شخص يتميز بشخصيته المرهفة.. وحسبنا أن السيرة الحية للنبي صلى الله عليه وسلم تؤكد بأنه يملك وجداناً يقظاً وقلباً فياضاً؛ قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، آل عمران. لقد راعى الإسلام كل جوانب الإبداع في النفس البشرية..فحفز جوانب الإبداع الإيجابي من خلال مجموعة من الروافد كان لها بالغ الأثر في تكوين الشخصية الإبداعية المسلمة وتمييزها عن الشخصيات الأخرى وذلك من خلال ما يأتي: أولا: الحث على التفكير الإبداعي إن العقول المعطلة تبقى ميتة لا نفع فيها، لذا حرص الإسلام على إطلاق تفكير الإنسان منذ نعومة أظفاره ونعى على أولئك الذين يتقيدون في التفكير بحدود ما وصل إليه أسلافهم، أو يقيدون عقولهم بعقول آخرين ربما كانوا أضعف منهم ملكة في التفكير؛ قال تعالى: (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) المائدة.. ثانيا: بعث روح التفاؤل والإيجابية. إن الإسلام يغرس في شخصية الإنسان التفاؤل والإيجابية، وينأى به عن التقاعس والكسل، حتى على مستوى الكلمة يقولها الشخص في حق نفسه، ولكي يبق المسلم متفائلا حرر الإسلام شخصيته من كل ضغط نفسي يمكن أن يؤثر عليه، مثل الخوف من المستقبل والهلع من قادم الأيام؛ فقد أخبر سبحانه وتعالى أن هذه الوساوس التي قد تعترينا أحيانا إنما هي من الشيطان..قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة. وكذلك حرر الإسلام الشخص من الخوف من الموت، ومن الخوف من المرض، ومن الخوف من انقطاع الرزق؛ ”اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصح ”(أخرجه أحمد والترمذي). إن مثل هذه الروح الإيجابية التي تغرس في شخصية الفرد المسلم من شأنها أن تدخل الطمأنينة والسعادة إلى نفسه، ثم تنتقل إلى المجتمع ليصبح هذا الفرد عنصرا فعالا منتجا ومبدعا في مجتمع رشيد. ثالثاً: تعزيز الاعتداد بالنفس وعدم التبعية الاعتداد بالنفس شعور داخلي يعبر عما يشعر به الإنسان تجاه نفسه من فخر واعتزاز، وهو يؤدي إلى الثقة بالنفس التي تُكوِّن في النهاية الشخصية المبدعة، وقد حث الإسلام الفرد المسلم على الاعتداد بنفسه، وعدم الركون للذلة والمسكنة، وعدم التبعية، وأن تكون للمسلم شخصيته المستقلة المتميزة... قال عليه الصلاة والسلام: ”لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي).. ومن صور الاعتداد بالنفس أن السنة النبوية الشريفة أذكت روح التنافس حين سمحت للطاقات العقلية الإبداعية بالتفجر ولم تحجر عليها، بل إنها استلهمتها لاستخراج المكنون من كنوزها؛ والدليل العملي على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يدلون بآرائهم في المواقف كلها وبين ظهرانيهم قائد ينزل عليه وحي السماء فتفتقت أذهانهم عن أمور إبداعية كثيرة؛ فهذا الحباب بن المنذر يشير على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر الكبرى بأن المنزل الذي نزل به الجيش ليس بمنزل، وأن المكان الأنسب هو ماء بدر.. والدراسات العلمية اليوم تشير إلى أن انخفاض شعور الفرد بأهميته وأهمية الأعمال التي يقوم في الغالب بأدائها تعد من معوقات الإبداع التي تكبح جماحه وتطفئ جذوة لهيبه في نفوس المبدعين. رابعا: تحقيق الحرية بمعناها الصحيح العلاقة بين الحرية والإبداع علاقة متكاملة ومرتبطة بعضها البعض، فلا إبداع بدون حرية، لأن الحرية هي الضمان الوحيد لإبداع حقيقي يقترب من الواقع بمعطياته، وفي ذات الوقت يأخذ بالحسبان الثوابت التي يسير عليها المجتمع ويتمسك بها، فتكون مصدراً لانطلاقته الإبداعية؛ فالحرية قيمة من القيم الأساسية التي تعمل بمثابة إطار مرجعي ينظم سلوك المبدعين ويحركه، وقد فتح الإسلام بمجيئه آفاقا للحرية ساهمت في تكوين البيئة الخصبة للإبداع، فالإسلام جاء بالتوحيد الذي يجسد الحرية في أسمى معانيها؛ ذلك أن العبودية تأخذ أشكالاً وصوراً متعددة، ومن ثم فإننا نجد هذا البعد حاضراً في الإشارات النّبوية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلن الرفض لكّل أنواع العبودية لغير الله ابتداءً من الأوثان البشرية ومروراً بالمعشوقات الحجرية، وانتهاءً بالتعلقات الخفية.. يقول عليه الصلاة والسلام: ”تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطى لم يف” ”سنن ابن ماجة”، فالعبودية للسالف ذكره استلاب لحرية العقل ودفن لطاقاته الإبداعية، يقع المرء من خلالها تحت سطوة اللذة العاجلة واللحظة الراهنة، بيد أن التحرر من العبودية لغير الله دعوة مفتوحة لالتحام بالكتلة العمرانية لنعيد للأمة تميزها ودورها الفاعل، وما التحول المذهل في العقل الجاهلي وإعادة تشكيله إلا من صناعة التوحيد. من خلال هذه الركائز والروافد بنى الإسلام شخصية إبداعية متميزة، تتمتع بالاستقرار الداخلي ولا تعاني الحيرة والاضطراب والتوهان الذي تعيشه بعض النفوس التَّواقة للإبداع في الحضارات الأخرى.. مقال:الدكتور محفوظ وليد خيري بتصرف