أغلب التركيز في الحرب على الإرهاب وعلى تنظيم داعش جرى في الجانب العسكري، وأحيانًا على بعض المسارات فيه، ولعل الأهم مثالان اثنان؛ أولهما تجربة التحالف الدولي في الحرب على ”داعش” التي تقودها الولاياتالمتحدة بمشاركة نحو خمسين دولة عبر العالم، والتي تكاد تقتصر عملياتها على قصف أهداف ”داعش” وبعض أخواته في العراقوسوريا، والمثال الثاني هو حرب تشنها على الأرض، تنظيمات مسلحة في العراق وفي سوريا ضد ”داعش” في مناطق يسيطر عليها التنظيم، حيث شنت ميليشيات شيعية عراقية وبعدها ”الحشد الشعبي” والجيش العراقي وتشكيلات كردية هجمات في العراق، فيما قامت قوات كردية - عربية أساسها تحالف مع فصائل للجيش الحر بهجمات على ”داعش” في سوريا وخاصة في مناطق شمال شرقي سوريا، وفي الحالتين العراقية والسورية، تمت مساندة محدودة للقوات من جانب التحالف الدولي في الحرب على ”داعش”. تكاليف ذلك الفصل من الحرب على ”داعش”، بدت كبيرة في ضوء الوقائع والتقديرات على السواء، ونتائجها أيضًا كانت محدودة. وبدل انحسار وتراجع ”داعش” وآيديولوجية التطرف والإرهاب، تعزز حضور الاثنين، وزادت المساحة التي يسيطر عليها التنظيم، فيما تنامت النزعات المتطرفة في الشرق الأوسط وأنحاء كثيرة من العالم، التي تشهد تجنيدًا متزايدا لعناصر التنظيم والجماعات الإرهابية، ولا تستثنى من ذلك الدول الغربية، التي تجعل من نفسها في مقدمة قوى محاربة الإرهاب و”داعش” بصورة خاصة. ولا يعود سبب النتائج الكارثية للحرب على ”داعش” إلى العقلية، التي تجري الحرب في ظلالها، وهي التركيز على عمليات القصف، التي لا تخلو من جانب دعائي – استعراضي فقط، بل لأنها تأخذ طابعًا محدودًا، ولا تترافق بعمليات برية موازية، وفي حالات المعارك البرية، فإن الدعم الجوي محدود، والقوى المنخرطة في الحرب عليها التباسات سياسية طائفية وعرقية، تدلل عليها، أن الحرب عمادها تشكيلات شيعية وأخرى كردية في العراقوسوريا. الأهم في أسباب النتائج الكارثية للحرب على ”داعش”، أنها تكاد تكون مقتصرة على العمليات المسلحة الجوية والبرية بخصوصياتها المشار إليها، مما يعني إهمال أو عدم الاهتمام بالجوانب الأخرى من الحرب، التي ينبغي أن تكون شاملة ضد ”داعش” خصوصًا وضد الإرهاب والتطرف الذي يمثل ”داعش” قمة جبل الجليد فيه، وهي جوانب لها طابع الحرب السلمية البعيدة عن قعقعة السلاح، وشلالات الدم، لكنه الأقوى والأشد تأثيرًا والأفضل في نتائجها بالمعنى العميق. إن شمولية الحرب على الإرهاب والتطرف، إنما تعني سلسلة من الخطوات والإجراءات، تمتد في المجالات والمستويات المختلفة. لعل الأبرز فيها ضرورة أن تكون حربًا عامة، تشمل المجالات السياسية والثقافية والإعلامية، كما المجالات الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تتكثف الجهود وتتناغم في تأدية مهمة الحرب على الإرهاب والنجاح فيها، مما يعني أنه من غير الممكن نجاح الحرب وتحقيق أهدافها، إن لم تكن السياسة في مواجهة الإرهاب، وهو أمر غير متحقق اليوم، وتعبيراته حاضرة ليس في المواقف السياسية للدول وأجهزتها الأمنية خصوصًا، وهو واقع قائم بصورة أقل عند التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، التي تقدم دعمًا مباشرا أو غير مباشر للإرهاب والتطرف وبعض جماعاته، والأمر ذاته حاضر في الثقافة بما فيها الثقافة الدينية، ليس في الإسلام فقط، وإنما في الثقافات الدينية الأخرى من المسيحية إلى اليهودية وصولاً للديانات الأخرى، وكلها اليوم تستغل لتوليد جماعات متطرفة وإرهابية، والحال في الإعلام ليس أفضل، فجزء كبير منه يخدم التطرف والإرهاب مباشرة أو بشكل غير مباشر سواء تحت معايير ”المهنية الإعلامية” و”الموضوعية”، أو من سياق ”السبق الصحافي” أو ”إشاعة المعلومات وتداولها” وغير ذلك من شعارات، لا تأخذ المصلحة الكبرى والعامة للعالم بعين الاعتبار، إنما تقدم عليها مصالح فئوية ضيقة ومؤقتة. ولا شك أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية السائدة في غالبية الدول، تساعد من خلال ما تخلقه من نتائج في استمرار وتصاعد التطرف والإرهاب، وتوليد عصاباته، التي لا يصعب عليها الحصول على السلاح والمال والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتصير قوى مؤثرة وفاعلة في واقع مملوء بالتناقضات والصراعات، وتغذية الانقسامات الاجتماعية الدينية والقومية والطائفية، وتصعيد الصراعات بين أطرافها ونخبها، وتعميق الفوارق الاقتصادية بين الطبقات والفئات، واضطهاد النخب وتهميشها، لا يساعد في الحرب على التطرف والإرهاب، بل يعززه. فكيف يكون الحال إذا تعرضت مكونات أو طبقات ونخب إلى عمليات إبادة شاملة؟ لعله لا يحتاج إلى تأكيد، أن ثمة ضرورة لوضع استراتيجية عالمية في موضوع الحرب على الإرهاب والتطرف وعلى تنظيماته دون استثناء وأولها ”داعش”، والضرورة الثانية، أن يكون لهذه الاستراتيجية قوة تنفيذية جدية، تتوفر فيها الإرادة لخوض الحرب بمعايير المصلحة الكبرى للعالم، بحيث تقبلها الدول أو الأغلبية فيها، بما يمنع الأقلية من التلاعب لأسباب ذاتية في موضوع صار بين الأهم في الموضوعات العالمية. ومثال سوريا وكذلك العراق، حيث يتنامى التطرف والإرهاب ويتمدد، يستحق التوقف عنده ودراسته بعيدًا عن الاعتبارات الضيقة والتفاصيل، التي يمكن أن تأخذ العالم إلى مسارات التيه. ففي البلدين نظامان فاسدان وقاتلان، يتباريان في التطرف وممارسة الإرهاب، تمامًا على نحو ما هو حال ”داعش” وأخواته، وأغلب السياسات الإقليمية والدولية، تغذي الانقسامات والصراعات بين مكونات الشعبين، بل إنها تسكت عن عمليات الإبادة والتدمير والتهجير، التي تتم فيهما سواء من النظامين ومن المتطرفين، ويتجنب العالم السير نحو حلول سياسية للوضع في البلدين، بل قسم منه يبشر بسنوات طويلة للصراع، وبعض آخر يسعى إلى إدخال نظامي بغداد ودمشق في مسار ”الحرب على الإرهاب”. نعم الحرب على التطرف والإرهاب تحتاج إلى قوة، تمثل القوة العسكرية أحد تجسيداتها العملية، لكنها ينبغي أن تكون الفصل الأخير أو قريبًا من ذلك، وقبلها ينبغي أن توضع استراتيجية أو رؤية شاملة، تدعم الجوانب غير المسلحة في تلك الحرب، والتي تمثل نسفًا للأسس التي يقوم عليها التطرف والإرهاب، وتتولد من خلفياته جماعات مثل ”داعش” وحزب الله اللبناني ونظام الأسد وغيرهم.