قبل أن يتوجه إلى برلين، حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية استرضاء الشعب الألماني، ولو من طريق تنظيف ماضيه الأسود خلال مرحلة الحكم النازي. وقال إن مفتي فلسطين الراحل الحاج أمين الحسيني هو الذي حرض الزعيم النازي أدولف هتلر، وشجّعه على تنفيذ المحرقة بحق يهود ألمانيا وأوروبا. وكان من الطبيعي أن يثير ذلك التفسير المخالف للوقائع، حفيظة الأكاديميين والإعلاميين داخل إسرائيل وخارجها. وسارع الناطق باسم انغيلا مركل إلى دحض تلك النظرية الخاطئة، معترفاً باسم المستشارة، أن مسؤولية ”الهولوكوست” هي مسؤولية ألمانيا بالكامل. وطالب زعيم المعارضة الإسرائيلية اسحق هرتسوغ، رئيس الحكومة بضرورة تصحيح أقواله، والامتناع عن تزوير التاريخ، لأنه يقزّم الكارثة التي صنعها هتلر وأعوانه. وانتقد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أكاذيب نتانياهو، لأنه برّأ ساحة هتلر، واتهم مفتي القدس. وكل ما يبتغي من وراء ذلك في رأيه، التحريض على الفلسطينيين والتنصُّل من المسؤولية عن حقوقهم المشروعة. غالبية الفلسطينيين تعتبر الحاج أمين الحسيني من أكثر الشخصيات إخلاصاً ووطنية، تجاه القضية التي جعلها القضية المركزية في حياته. وقد ساعدته مهمته كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى وكخلف لشقيقه كامل في دار إفتاء القدس، على تصنيفه في طليعة الشخصيات الناشطة لكسب قوى خارجية مؤيدة لموقفه ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني. ولد محمد أمين الحسيني في القدس سنة 1895 لعائلة ميسورة استطاعت أن تؤمن له سبل الدراسة داخل فلسطين وخارجها. وقد باشر في سن مبكّرة، تلقّي العلوم الدينية وأصول اللغة العربية قبل الالتحاق بمدرسة ”الفرير” لتعلُّم اللغة الفرنسية. وعقب انتهائه من هذه المرحلة، أرسله والده إلى الأزهر في القاهرة لاستكمال دراساته الدينية. وانتقل بعد ذلك إلى إسطنبول، حيث انخرط في صفوف الكلية الحربية، ليتخرج منها برتبة ضابط صف في الجيش العثماني. ولكن اعتلال صحته أجبره على العودة إلى القدس، في وقت كانت قوات الجيش البريطاني تطارد فلول الجيش العثماني لتحتل القدس بقيادة الجنرال اللنبي. وقد باشر الجنرال مهمته بملاحقة رموز الثورة الفلسطينية، والتضييق على نشاط زعماء المجلس الإسلامي الأعلى، بسبب تأييدهم سياسة الحاج أمين الحسيني. ويبدو أن اللنبي تمادى في قسوته وأساليب اضطهاده، الأمر الذي دفع الشاعر أحمد شوقي، إلى نظم قصيدة في تجاوزاته، مطلعها: يا فاتح القدس خلِّ السيف ناحية، ليس الصليبُ حديداً كان، بل خشبا واللافت أن الصحف البريطانية في حينه، كانت تصف ”الثورة الفلسطينية” بالاضطرابات، خوفاً من إثارة اهتمام الرأي العام العالمي بأبعادها الإنسانية والحقوقية والتاريخية. أما الحاج أمين، فقد نال النصيب الأكبر من الحملات الظالمة التي وصفته بالمتعصّب الديني والعنصري اللاسامي، والطامح إلى منع اليهود من الاستيلاء على فلسطين. وكان من المنطقي أن تترافق حملات الإعلام مع حملات المطاردة، خصوصاً بعدما أصدر المندوب السامي البريطاني قراراً بإقالته من منصب الإفتاء والقبض عليه. حينها هرب الحسيني إلى لبنان حيث اعتقلته السلطات الفرنسية. ولكنه استطاع الهرب بواسطة مؤيديه الكثر، من لبنان إلى العراق. وفي بغداد شجّع الضباط العراقيين على مقاومة الإنكليز، والانضمام إلى ثورة رشيد عالي الكيلاني التي جذبت إليها عدداً كبيراً من مجاهدي فلسطين. ولما ضاق حصار الإنكليز عليه، انتقل إلى تركيا التي كانت حليفة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ومنها توجّه مع بعض أنصاره إلى برلين، مستعيناً بجواسيس البلدين وقطع طرقاً بحرية وبرية للوصول إلى عاصمة الرايخ الثالث. وظل وجوده في ألمانيا طي الكتمان إلى حين استقبله هتلر بعد إنشاء ”المكتب العربي”، وانضمام عفيف الطيبي ويونس البحري وكامل مروة وآخرين إلى المجموعة العاملة فيه. ومكث المفتي في برلين طوال فترة الحرب العالمية الثانية، وبقي فيها إلى أن استسلمت العاصمة لجيوش الحلفاء. وعلى رغم الطوق العسكري المضروب حول المدينة المشتعلة، استطاع الحسيني اختراق الحصار، والتسلُّل إلى فرنسا بواسطة مساعديه. في فرنسا أُلقي القبض على الحسيني، وقضى يومين في زنزانة مظلمة. ولكنه تقدّم من الضابط المسؤول وعرّفه بنفسه ومكانته، وطالب بأن يُعامل بالشكل اللائق. وحرصاً على سلامته، جرى نقله إلى منزل بعيد جنوب باريس. وتدخّل من أجل إطلاق سراحه، ملك المغرب ورئيس تونس، إضافة إلى رئيس باكستان محمد علي جناح. وقبل أن تقرر فرنسا البت في مصيره، استطاع المفتي الهرب بجواز سفر مزوّر استعمل فيه صورة صديقه السوري الدكتور معروف الدواليبي. وبعد نجاحه في الوصول إلى القاهرة، ظل المفتي متخفّياً عدة أسابيع، إلى أن حصل في آخر الأمر على ضيافة رسمية من الملك فاروق حمته من المطاردة الدولية. لكن حرب 1948 أبعدت الحاج أمين عن القاهرة، وعن فلسطين أيضاً، بسبب مطاردته المتواصلة من قبل دولة إسرائيل التي اعترفت بشرعية إنشائها الأممالمتحدة. وبعد انقضاء سنوات تميّزت بفشل المشاريع السلمية، انتقل المفتي إلى بيروت مطلع سنة 1961، ونقل معه مقر الهيئة العربية العليا. وكان سكنه في فيلا مسورة قبالة ”دار الصياد” في الحازمية، قدّمتها له إحدى الجمعيات الإسلامية. وصدف في ذلك الوقت أن كانت إسرائيل منشغلة في محاكمة أدولف ايخمان، رئيس جهاز ”الغستابو” السابق، الذي خطفته من الأرجنتين. وبعد مرور سنة، دانته المحكمة الإسرائيلية بالإعدام شنقاً. وقد نفّذ الحكم في 31 أيار (مايو) 1961، ثم أُحرقت جثته وأُلقي رمادها في البحر الأبيض المتوسط. ولكن استجوابات المحاكمة ظلت تتفاعل في العواصم العربية والأجنبية، خصوصاً منها المسائل المتعلقة بدور الحاج أمين الحسيني في تحريض أدولف ايخمان على إبادة اليهود. وقد أخذ القاضي على المتهم زيارته المفاجئة لفلسطين سنة 1937، ومن ثم اجتماعه بالمفتي في القاهرة خريف سنة 1941. والثابت من وقائع تلك المرحلة، أن السلطات الألمانية أشرفت على تنظيم هجرة مئة ألف يهودي إلى فلسطين ما بين سنة 1938 و1948. ولاحظ المستمعون إلى وقائع محاكمة ايخمان أن المحقق كان يحرص على تركيز استجواباته على الناحية المتعلقة بتصفية اليهود في أفران الغاز... وما إذا كان مفتي فلسطين هو الذي شجّعه على قتل آلاف اليهود الهاربين من ألمانيا إلى دول الجوار. وحديث نتانياهو عن دور المفتي، لم يكن الهدف منه تبرئة هتلر والنازيين، بل تجريم الفلسطينيين، وتحميلهم عبء الارتكابات التي اقترفها ايخمان وأمثاله. إضافة إلى تأجيج الكراهية ضد الفلسطينيين، فإن رئيس حكومة إسرائيل أراد أيضاً تضخيم الخوف من الإسلام، الأمر الذي دفع عضو الكنيست أحمد الطيبي لأن يسأله إذا كان يكره الفلسطينيين إلى هذا الحد؟ خلال تطور تلك الأزمة السياسية التي طوّقت الحاج أمين الحسيني، اتصلتُ في ذلك الوقت بمساعده اميل الغوري (وهو من القدس أيضاً) وطلبتُ إجراء حديث معه لمجلة ”الصياد” حيث كنت أعمل. واستقبلني المفتي بابتسامة شكر ظلت معلّقة على فمه طوال الوقت. والسبب أنه لقي بعد انتهاء الحرب وهزيمة ألمانيا، مقاطعة عربية ودولية وصلت إلى حد التهميش الكامل. لذلك رأى في تلك المناسبة فرصة للإعراب عن وجهة نظره بالنسبة إلى ما جرى ويجري في فلسطين، وفي مدينته القدس في شكل خاص. وأخبرني أن الحركة التي قادها من القدس بدأت بمقاومة الحكم العثماني، واستمرت بعد وصول الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي. ولما سألته عن السبب، أكد أن الإنكليز جاؤوا إلى فلسطين للحلول محل العثمانيين، ولحماية اليهود، ومساعدتهم على تحقيق حلمهم بالاستيلاء على كل البلاد وطرد العباد. وروى لي الحاج أمين حادثة مرافقته لشقيقه مفتي القدس السابق كامل الحسيني إلى الساحة العامة بغرض الاستماع إلى أول خطاب ألقاه اللنبي. وقال إنه فوجئ بمضمون الخطاب عندما استهلّ الجنرال كلامه بتمجيد دور الصليبيين الذين احتلوا القدس، كأنه يوحي لنا بأنه جاء ليكمل دورهم. وقبل أن يختم خطابه، انسحب أخي مع كل زعماء فلسطين احتجاجاً على غطرسته وحماقته. وأخبرني المفتي ”أن الاستقواء بألمانيا لم يكن خياراً سهلاً لرجل يعتمر العمامة، ولكنه تحوّل إلى خيار وحيد بعدما حاربتنا كل الدول الكبرى، ورفضت مساندة قضيتنا”. ولدى استعراض ذكرياته، لاحظتُ أن المفتي كان يحرص على التحدُّث عن نشاطه الأول في فلسطين، وكيف كان يزور المدن والقرى لتوعية الشعب وتجميع الصفوف وتنظيم المقاومة. ثم ختم حديثه باستذكار شخصيات حذت حذوه مثل الأمير شكيب أرسلان والشريف زيد ورشيد عالي الكيلاني وكامل مروة وعفيف الطيبي ويونس البحري، وآلاف من العرب والإنكليز والفرنسيين، ممن راهنوا على الجهة الخطأ. ولكنه اعترف بأن ميوله السياسية ظلت عربية، وأنه قامر من أجل فلسطين... وخسر!