لقد كتب الله لهذه الشريعة أن تنتصر على يد اثنين يجمع بينهما اسم يوسف، يوسف المشرق صلاح الدين يوسف بن أيوب، ويوسف المغرب يوسف بن تاشفين، الأول أعاد القدس إلى ديار الإسلام، والثاني أنقذ الأندلس وأقام شرع الله فيها وفي بلاد المغرب العربي قاطبة. * مولد يوسف ونشأته هو أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتوني الصنهاجي (400- 500ه/ 1009- 1106م)، وكانت قبيلته قد سيطرت بسيادتها وقيادتها على صنهاجة، واحتفظت بالرئاسة منذ أن جعلها الإمام عبد الله بن ياسين فيها بعد وفاة الأمير يحيى بن إبراهيم الجُدالي، فنما عزيزًا كريمًا في قومه. تلقَّى يوسف تعاليمه الأولى في قلب الصحراء من أفواه المُحَدِّثِين والفقهاء، ونما وترعرع وتربَّى على تعاليم الإمام الفقيه ابن ياسين، ونبغ في فنون رجال الحرب، وفي السياسة الشرعية التي تتلمذ على الفقهاء فيها، وقام بها خير قيام. * مراحل حياته بدأ نجم أسد المرابطين يوسف بن تاشفين في الظهور في معركة الواحات (448ه/ 1056م) التي كان فيها قائدًا لمقدمة جيش المرابطين المهاجم، وبعد فتح مدينة سجلماسة عيَّنه الأمير أبو بكر بن عمرو اللمتوني واليًا عليها، فأظهر مهارة إدارية في تنظيمها، ثم غزا بلاد جَزولة وفتح ماسة ثم سار إلى تارودانت قاعدة بلاد السوس وفتحها، وكان بها طائفة من الشيعة البجليين (نسبة إلى مؤسسها علي بن عبد الله البجلي)، وقتل المرابطون أولئك الشيعة، وتحوَّل مَن بقي منهم على قيد الحياة إلى السنة. ثم جاء دور أغمات، كانت مدينة مزدهرة حضاريًّا، إذ كانت أحد مراكز النصرانية القديمة، ومقرًّا للبربر المتهودين، كان يحكمها الأمير لقوط بن يوسف بن علي المغراوي، وتلقَّى يوسفُ التعليمات من الأمير أبى بكر بالزحف نحوها، ومهاجمتها، ودكِّها، ودخل المرابطون المدينة (449ه/ 1057م). وسار المرابطون وفي جملتهم يوسف نحو دولة برغواطة (الدولة الكافرة الملحدة) ونشبت المعارك بين الفريقين، وأصيب خلالها الإمام ابن ياسين بجراح بالغة توفي على أثرها، فكان استشهاد الإمام الفقيه عبد الله بن ياسين البداية الأولى في دفع يوسف إلى رئاسة الدولة الناشئة. وعندما دخل أبو بكر بن عمر بجيوشه إلى الصحراء، وأناب ابن عمه يوسف على المغرب، ظهرت خلالها مواهب يوسف العسكرية والإدارية والتنظيمية والحركية والدعوية، وسلم النَّاسُ بزعامته، وبدأ في تأسيس دولته بالحزم والعلم والجد والمثابرة والبذل والعطاء. وعندما رجع أبو بكر من الصحراء جمع أشياخ المرابطين من لمتونة وأعيان الدولة، والكُتَّاب والشهود، وأشهدهم على نفسه بالتخلي ليوسف عن الإمارة، وعلَّل الأمير أبو بكر هذا التنازل لابن عمه يوسف لدينه وفضله وشجاعته وحزمه ونجدته وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته، وأوصاه الوصية التالية قائلاً: (يا يوسف، إنِّي قد ولَّيتُك هذا الأمر وإنِّي مسئول عنه؛ فاتقِ الله في المسلمين، وأعتقني وأعتق نفسك من النار، ولا تُضيِّع من أمر رعيتك شيئًا؛ فإنَّك مسئول عنهم، والله تعالى يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح والعدل في رعيتك). * إمارة يوسف للمرابطين وبعد أن صار يوسف قائدًا وأميرًا للمرابطين، قام نحو المغرب الشمالي؛ لينتزعه من أيدي الزناتيين، واستخدم من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود إرسال الجيوش للقضاء على جيوش المخالفين مستفيدًا من الخلافات السياسية بين قادة المدن، فحالف بعضها من أجل قتال الباقي، واستطاع أن يَدخُل مدينة فاس صلحًا عام 455ه، ثم تمرَّد أهلها عليه إلا أنه استطاع إخماد جميع الثورات التي قامت ضد المرابطين بجهاده وكفاحه المستمرِّ، حتى تمَّ له فتح جميع البلاد من الريف إلى طنجة عام (460ه/ 1067م). وأعاد فتح فاس عنوة بحصار ضربه عليها بجيش قوامه مائة ألف جندي عام (462ه/ 1069م)، فقضى على شوكة مغراوة وبني يقرن وسائر زناتة، ونظَّم المساجد والفنادق وأصلح الأسواق، وخرج من فاس عام 463ه إلى بلاد ملوية وفتحها، واستولى على حصون وطاط من بلاد طنجة. * توحيده للمغرب العربي وبعد أن رجع من تلك الجولَة التفقدية الإصلاحية سار بجيوشه عام (465ه/ 1072م) لغزو الدمنة من بلاد طنجة وفتح جبل علودان، وفي عام (467ه/ 1074م) إستولى على جبل غياثة وبني مكود وبني رهينة من أحواز تازا، وجعلها حدًّا فاصلاً بينه وبين زناتة الهاربة إلى الشرق، وأبعد عن المغرب كلَّ مَن ظنَّ فيه أنه من أهل العصيان، فأصبح خالصًا له مرتاحًا إلى طاعته مطمئنًا إلى خلوده إلى السكينة والهدوء غير تواق للثورة عليه. وأصبحت منطقة تازا ثغرًا منيعًا بينه وبين زناتة؛ ولذلك اعتبر المُؤَرِّخُون عام 467ه/ 1074م فاصلاً في تاريخ الدولة المرابطية؛ إذ بسط يوسف نفوذه على سائر المغرب الأقصى الشَّمَالي بإستثناء طنجةوسبتة. وسيَّر يوسف بن تاشفين إلى طنجة جيشًا من اثني عشر ألف فارس مرابطي وعشرين ألفًا من سائر القبائل، وأسند قيادته إلى صالح بن عمران عام 470ه، وعندما اقتربت جيوش المرابطين من طنجة برز إليهم الحاجب بن سكوت على رأس جيش وهو شيخ يناهز التسعين، وانتصر المرابطون وفتحوا طنجة، وقُتل في تلك المعارك الحاجب بن سكوت. وبعد فتح طنجة استأنف الأمير يوسف توسُّعَه نحو الشرق لمطاردة زناتة التي لجأت إلى تلمسان، وكان هدفه القضاء على أي مقاومة تُهَدِّد دولة المرابطين في المستقبل، وبدأت عمليات الهجوم الوقائي التي استطاعت أن تحقق أهدافها، وتهزم جيش تلمسان المعادي وتأسر قائده معلى بن يعلى المغراوي الذي قُتل على الفور، ورجعت كتائب المرابطين إلى مراكش, ثم عاد يوسف نحو الريف، وغزا تلك الأراضي وضم مدينة تكرور. ثم رجع بجيوشه نحو وهران وتنس وجبال وانشريش ووادي الشلف حتى دخل مدينة الجزائر, وتوقف عند حدود مملكة بجاية التي حكمها بنو حمَّاد -فرع من صنهاجة- وبَنَى يوسف في مدينة الجزائر جامعًا لا يزال إلى اليوم ويُعرف بالجامع الكبير. وعاد إلى مراكش عام 475ه/ 1081م، وبذلك توحَّد المغرب الأقصى بعد جهاد استمرَّ ثلاثين عامًا، وأصبحت دولة المرابطين في مرحلة التَّمكين الفعلية. وفي عام 476ه/ 1083م وجَّه الأمير يوسف ابنه المُعزَّ في جيش إلى سبتة لفتحها؛ إذ كانت المدينة الوحيدة التي لم تخضع له، كان يحكُمُها بعد وفاة الحاجب بن سكوت ابنه ضياء الدولة يحيى، فحاصرها المعزُّ برًّا وبحرًا، ودارت معركة بحرية طاحنة، وفي نهاية المطاف استطاع المرابطون أن يفتحوا سبتة، وقُتِل ضياء الدولة بعد أن أُلقي القبض عليه، وكان ذلك عام 477ه/ 1084م. * الأندلس وملوك الطوائف بعد هذه الجولة الجهادية الموفَّقَة تم توحيد المغرب الأقصى بجميع نواحيه بعد عمل جادٍّ مستمرٍّ، وأصبحت الدولة المرابطية قُوَّة لا يُستهان بها تُشكل خطرًا على النصارى في الأندلس، وملجأ وحصنًا للمسلمين في الأندلس، حيث إن النصارى استفحل خطرهم في الأَنْدَلُس، حيث قامت للمسلمين دويلات في كل مدينة وصلت إلى ثلاث وعشرين دويلة تناحرت فيما بينها، وعُرف حكامها ب ملوك الطوائف وتلقَّبوا بألقاب الخلفاء كالمأمون والمعتمد والمستعين والمعتصم والمتوكل إلى غير ذلك من الألقاب، ووصف هذه الحالة المشينة الشاعر أبو علي الحسن بن رشيق فقال: مما يزهدني في أرض أندلس *** سماع مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهرِّ يحكي انتفاضًا صولة الأسد ولما كان الوضع في الأندلس على هذا السوء، من التفرق والتشرذم، أعمل ملك الصليبين فيها ألفونسو السادس سيفه وسنانه، حتى أصبح ملوك الطوائف يبعثون بالجزية إليه كل عام، فضج ملوك الطوائف من تجبره وغطرسته، وقتل المعتمد رسل ألفونسو التي جاءت لتحصيل الجزية، فأعد ذلك الصليبي العدة لإفناء المعتمد وباقي ملوك الطوائف. ومِن هنا أرسل ألفونسو برسالة إلى الأمير يوسف بن تاشفين يهزأ منه قائلاً: فإن كنت لا تستطيع الجواز فابعث إليَّ ما عندك من المراكب نجوز إليك، أناظرك في أحب البقاع إليك؛ فإن غلبتني فتلك نعمة جُلِبت إليك، ونعمة شملت بين يديك، وإن غلبتك كانت ليَّ اليد العليا عليك، واستكملت الإمارة، والله يتم الإرادة. فكان رد الأسد المرابط يوسف بن تاشفين مدويًّا، يقطر عزة وإباءً مع قلة حروفه، فكتب على ظهر الرسالة: (الجواب ما ترى لا ما تسمع). * نصرته لملوك المسلمين في الأندلس أرسل ألفونسو رسالات التحذير والتهديد للمعتمد، مما دفعه بعد تفكير طويل إلى إرسال رسالة مكتوبة إلى الأمير يوسف مؤرخة 479ه، يستنجد بيوسف بن تاشفين، جاء فيها: (ونحن أهل هذه الأندلس ليس لأحد منا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه، ولو شاءوا لفعلوا إلا أن الهواء والماء منعهم من ذلك، وقد ساءت الأحوال، وانقطعت الآمال، وأنت -أيَّدك الله- سيد حمير، ومليكها الأكبر، وأميرها وزعيمها، نزعت بهمتي إليك واستنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد هذا العدو الكافر وتحيون شريعة الإسلام وتدينون على دين محمد، ولكم عند الله الثواب الكريم على حضرتكم السامية. السلام ورحمة الله وبركاته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). وأرسلت وفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل تحثُّ الأمير على إنقاذ الأندلس، وتأثر المرابطون لمُصاب إخوانهم في الدِّين، وعرض أميرهم قضية مسلمي الأندلس على أهل الحلِّ والعَقْد عنده، وأجمعوا على نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد. * يوسف بن تاشفين في الأندلس لقد انزعج ألفونسو من مجيء المرابطين انزعاجًا كبيرًا، حيث شعر بعودة الروح المعنوية إلى أهالي الأندلس الذين كان يسومهم سوء العذاب، يُقتِّل رجالهم ويسبي نساءهم، ويأخذ منهم الجزية، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتلاعب بمصيرهم، وينتظر الفرصة لاستئصالهم من الأندلس، لتعم النصرانية في سائر البلاد، ويرتفع الصليب على أعناق العباد، وإذا بالمرابطين يربكون مخططاته ويبددون أحلامه. وأرسل يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو كتابًا يعرض عليه الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب، ومما جاء في كتاب الأمير: (بلغنا يا ألفونس أنَّك نحوت الاجتماع بنا، وتمنيَّت أن تكون لك فُلْكٌ تعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وترى عاقبة ادعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال). ولما قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب عقله وقال: (أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل ملته منذ ثمانين سنة؟)، وقال لرسول الأمير يوسف: (قُل للأمير: لا تتعب نفسك، أنا أصل إليك). * موقعة الزلاقة - رواية يوسف بن تاشفين لمعركة الزلاقة فجمعنا عساكرنا وسرنا إليه -ألفونسو السادس- وصرنا إلى قفل قورية من بلاد المسلمين صرفها الله، فسمع بنا، وقصد قصدنا، وورد وردنا، واحتلَّ بفنائها منتظرًا لنا، فبعثنا إليه نحضه على الإسلام، ودخوله في ملة محمد، أو ضرب الجزية عليه، وإسلام ما كان من المال والبيوت لديه، كما أمرنا الله تعالى وبيَّن لنا في كتابه؛ من إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فأبى وتمرَّد، وكفر ونخر، وعَمِل على الإقبال علينا، وحثَّ في الورود علينا، فلحِقَنَا وبيننا وبينه فراسخ، فلمَّا كان بعد ذلك، برزنا عليه أيامًا، فلم يُجِبْنَا، فبقينا وبقوا، ونحن نخرج الطلائع إليه، ونُتابع الوثوب عليه، وبنينا على لقائه يوم الخميس لإحدى عشر ليلة خلت لرجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة. فلما كان يوم الجمعة ثانيه، ورد علينا بكتائب قد ملأت الآفاق؛ وتقلَّبَتْ تَقَلُّب الحتوف للأحداق؛ قد استلموا الدروع للكفاح، وربطوا في سوقهم الألواح، وبطونهم ملأى من الخمر، يُقَدِّرون أن الدائرة علينا تدور، ونحن في أخبيتنا صبيحة اليوم المذكور، كلٌّ مِنَّا سَاهٍ، وجميعنا لاهٍ، فقصد أشدُّهم شوكة، وأصلبُهم عودًا، وأنجدُهم عديدًا، محلةَ المعتمد على الله المؤيد بنصر الله -وَفَّقَهُ الله- عماد رؤساء الأندلس وقطبهم، لا يقدرون عسكرًا إلا عسكره، ولا رجالاً إلا رجاله، ولا عديدًا إلاَّ عديده، وداود من أصحابنا منا إلى إزائه، فهبطوا إليه لفيفًا واحدًا، كهبوط السيل، بسوابق الخيل، فلما كان معه من جنده ومن جميع الطبقات، الذين كانوا يدخرون من قبله الأموال والضياع، استكَّت آذانهم، واضطربت أضلاعهم، ودهشت أيديهم، وزلزلت أقدامهم، وطارت قلوبهم، وصاروا كركب الحمير، فَرُّوا يطلبون معقلاً يعصمهم، ولا عاصم إلاَّ الله، ولا هاربًا منه إلاَّ إليه، فلحقوا من بطليوس بالكرامات، لما عاينوا من الأمور المعضلات، وأسلموه (المعتمد) -أيده الله- وحده في طرف الأخبية، مع عدد كثير من الرجالة والرماة، قد استسلموا للقضاء، فوثبوا (الروم) عليه وثب الأسد على الفرائس، يعظمون الكنايس، فحبسهم حينًا وحده مع مَنْ إليه ممن ذكرناه، وبسطوا منهم الأرض، ولم يبقَ من الكل إلاَّ البعض، ولجأ في الأخبية بعد أن عاين المنية، وتَخَلَّصَه اللهُ بنِيَّتِه في المسلمين وبلغه أمنيته، بعد أن وقف وقفة بطل مثله، لا أحد يَرُدُّ عليه، ولا فارس من فرسانه وعبيده يرجع إليه، لا يروعه أحد منهم فيهزم، ولا يهابهم فيسأم. ثم قَصَدَتْ كتيبَتَهُ (كتيبة ألفونسو) سودًا كالجبل العظيم أو الليل البهيم، عسكر داود وأخبيته، فجالوا فيها جولانًا، وقتلوا من الخلق ألوانًا، واستشهد الكل بحمد الله، وصاروا إلى رضوان الله، ونحن في ذلك كله غافلون، حتى ورد علينا وارد، وقصد إلينا قاصد، فخرجنا من رواء الشعب، كقطع اللهب، بجميع مَنْ معنا، على الخيل المسومة العراب، يتسابقن الطعن والضراب، فلما رأونا، ووقعت أعينهم علينا، ظَنُّوا أن الدائرة فينا ولدينا، وأَنَّا طُعْم أسيافهم، ولقاء رماحهم، فكَبَّرْنَا وكَبَّر الكل معنا، مبتهلين لله وحده لا شريك له، ونهضنا للمنون الذي لا بُدَّ منه، ولا محيص لأحد عنه، وقلنا: هذا آخر يومنا من الدنيا، فلتموتوا شهداء. فحملوا علينا كالسهام، فثَبَّتَ الله أقدامنا، وقوَّى أفئدتنا، والملائكة معنا، والله تعالى وليُّ النصر لنا، فَوَلَّوْا هاربين، وفَرُّوا ذاهبين، وتساقط أكثرهم بقدر الله تعالى دون طعنة تلحقه، ولا ضربة تُثخنه، وأضعف الرعب أيديهم، فطعَنَّاهم بالسمهرية دون الوخز بالإبر، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، حتى إن هاربهم لا يرى غير شيء إلا ظنه رجلاً، وفتكت فيهم السيوف على رغم الأنوف، فوالله! لقد كانت تقع على الدروع فتفريها، وعلى البيضات فتبريها، وزرقوا الرجالة منا على خيلهم الرماحَ، فشَكُّوهم بها فرمحت بهم. فما كنت ترى منهم فارسًا إلاَّ وفرسه واقف على رأسه لا يستطيع الفرار، الكلُّ يجرُّ عنانه، كأنه مُعْقَل بعقاله، ونحن راكبون على الجواد الميمون، العربي المصون، السابق اللاحق، المعدُّ للحقائق، وما منا إلاَّ مَنْ له جرناز فيه سيفان، وبيدنا الثالث، عسى أن يحدث من حادث، فصاروا في الأرض مجدلين، موتى معفَّرين، وقد تراجع الناس بعد الفرار، وأمنوا من العثار، وتضافروا مع عسكرنا وغيرهم؛ يقطعون رءوسهم، وينقلون بإزاء المحلات، حتى علت كالجبال الراسيات، عدد لا يُقَدَّر، ومدد لا يُحْزَر، والتجريد فيهم، والأيدي متعاودة لبطونهم، واستأصلنا أكابرهم، وحللنا دون أماطيهم وأمانيهم، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون. وانقطع من عسكرهم نحو ألفي رجل أو أقل، والأذفونش فيهم على ما أخبرنا، قد أُثخنوا جراحًا بإزاء محلاتهم، يرتادون الظلام للهروب في المقام، واللهِ! لقد كان الفرسان والرجَّالة يدخلون محلَّتهم، ويعثرون في أخبيتهم، وينتهبون أزودتهم، وهم ينظرون شزرًا نظر التيوس إلى شفار الجازرين، إلى أن جنَّ الليل وأرخى سدوله، وَلَّوْا هاربين، وأسلموا رحائلهم صاغرين، فكم من دلاص على البقاع ساقطة، وخيول على البقاع رابضة، ولقد ارتبط كل فارس منا الخمسة الأفراس أو أزيد. وأمَّا البغال والحمير فأكثر من ذلك، وأما الثياب والمتاع فناهيك، والأسرَّة بأوطية الحرير، والثياب والأوبار عدد ليلهم، ولا يكلُّون في الانتقال، ولا يسأمون من تشريط الأموال، ولحقوا قورية، ومنها إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فصححنا ضمائرنا، وأخلصنا للمعتمد على الله نياتنا وسرائرنا، ورجعنا بحمد الله غانمين منصورين. لم يستشهد منا إلاَّ الفرقة التي قَدَّر الله عليها بذلك، وقَدَّرنا أن الكل منهم هلك لقلَّة معرفتهم وجهالتهم بقتال النصارى، وتراميهم للشهادة، قدَّس الله أرواحهم، وكرَّم مثواهم وضريحهم، وجعل الجنة ميعادًا بيننا وبينهم، وفقدنا من أكابرنا نحو عشرين رجلاً ممن شُهدت نجدته في المغرب، وانقلبت خير منقلب. ولحقنا إشبيلية حضرته (المعتمد) عمرت ببقايه، وأقمنا عنده أيامًا، ورفعنا عنه مُوَدِّعين، لا تَوَدُّع قاطع... * وفاته وفي غرة محرم سنة 500ه أي وهو في المائة من العمر، قرنًا كاملاً من الزمان، رحل البطل، وترجّل الفارس الشجاع، وموحِّد الأمة بعد أن أتم أمير المرابطين عمله الذي عاش وجاهد من أجله، ووحد بلاد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وأعاد الإسلام الصحيح بربوع المغرب، وأزال الظلمة والطواغيت والمتسلطين على رقاب العباد، وصدَّ الصليبيين عن مسلمي الأندلس، وأوقف حرب الاسترداد الإسبانية فترة من الزمان.