لقد أمر الله تعالى في كتابه الكريم عباده من المؤمنين والكافرين بالتأمل في خلقه وتدبر آياته لاستجلاء دلائل وجوده ووحدانيته وعظمته، في الأنفس والآفاق، في عالم الحيوان والنبات والجماد، أرضا وسماء، برا وبحرا وجوا، واضعا لهم بذلك منهج قراءة كتابه المفتوح عليهم من قديم الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لتبقى فريضة التأمل والتفكر والتدبر التي تعد خاصية إنسانية أساسها العقل مناط التكليف من أبدع وأعظم وألذ الفرائض وأكثرها شوقا وتوترا؛ وقد توالت الآيات الداعية لهذه الفريضة وهي تتسائل (أفلا يتدبرون)، (أفلا يعقلون)، وآيات الله تعالى في الكون وآلاء خلقه كثيرة لا تعد ولا تحصى فحيثما وجه الإنسان بصره وبصيرته ألفاها تترى مبثوثة في ملكوت الله تعالى، ومخلوقاته العجيبة من سماء وأرض ونجوم وأفلاك ومجرات وشمس وقمر وكواكب وبحار وأنهار وجبال وقارات ودواب وطيور وأشجار وغابات وأزهار وورود، وليل ونهار متعاقبان، وظلمة ونور متجاذبان، وسحب وأمطار وثلوج ورياح وبرق ورعد. والتأمل في ملكوت الله تعالى وكونه لا يقل عبرة عن التأمل في كتابه المتلو القرآن الكريم، فمصدرهما واحد الأول بقوانينه المطردة وعجائبه وبراهينه والثاني بآياته البينة وأحكامه المتناسقة؛ ولئن جاء النص على التأمل في مطلق كون الله تعالى إلا أن القرآن الكريم خص بعض أجزاء الكون وأمر بالنظر والتأمل فيها،ومنها ما ورد في قوله تعالى: وقال تعالى((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)). وفي قوله تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون))، وفي قوله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ))وقال تعالى((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)) وغير ذلك مما خص بالذكر. وللتأمل في خلق الله تعالى وملكوته حكم ومقاصد جمة منها: التوصل بصحيح النظر العقلي والتأمل الحسي للكون على وجود الله تعالى؛ لأن الخلق يدل على الخالق كما تدل الآثار على من مر بها أو عمرها، ولذلك قال الله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه))، إذ لا يعقل أن يوجد هذا الكون البديع بمخلوقاته العاقلة وغيرها دون موجد، قال تعالى: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ)) فهذا من دليل الربوبية، ولهذا قال الفلاسفة قديما بواجب الوجود. ومن مقاصد التأمل أيضا إدراك عظمة الله تعالى؛ لأن هذا الكون من الشساعة والدقة والجمال ما يقف الإنسان المتأمل حياله عاجزا منبهرا مستعظما خالقه، ففي الكون ملايير المجرات وفي كل مجرة ملايير النجوم والمجموعات الشمسية تسبح في ملكوت الله تعالى مخلوقة بإبداع على غير مثال سابق؛قال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا )وقال أيضا: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)بل إن عظمة الله تعالى تتجلى مظاهره في دقة خلق الإنسان نفسه بنسيجه المعقد. ولهذا جاء التساؤل القرآني: ((هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ )). ومن مقاصد التامل أيضا إدراك وحدانية الله تعالى وهذا ما يسمى بدليل النظام؛ لأن التناسق والانسجام بين أجزاء الكون الشاسع ومكوناته يدل دلالة قاطعة على أن خالقه واحد؛ إذ لو كان في الكون أكثر من خالق لاختل ولما وقع الانسجام فلكل إله إرادته المخالفة للآخر، ولهذا قال الله تعالى: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91))) فالكون متناسق منسجم بدقة باهرة لهذا قال الله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىفِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4))). وهذه المقاصد الثلاث تفضي بالمتأمل إلى الإيمان بالله تعالى والتسليم بغائية الكون وأنه لم يخلق عبثا أو دون مقصد، مما يلزمه الإدعان والعبودية لله تعالى خالقه كما قال الله تعالى: (( ((فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖوَمَالِلظَّالِمِينَمِنْأَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)). وهذا هو غرض وجود الإنسان أن يؤمن بربه عن اقتناع ويعبده طوعا ومحبة ويدرك نعمته عليه فيؤدي شكرها بالطاعة كما قال تعالى: ((((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)) فما أعظم دوام التأمل في الكون ليلا ونهارا وما أجل فوائده العقلية والوجدانية.