إن ما نريده من القرآن الكريم هو ما كان أعمق من القراءة، و أبعد من التلاوة، و أنفع من الحفظ المجرد ومن التغني، وهو التدبر والتمعن وبالتالي الانصياع والاستسلام والانقياد. فلا شك أن التدبر هو البوابة التي نلج من خلالها إلى فهم معاني كلام الله، و هو طريق إلى الاتباع، وأول خطوة نحو العمل. والتدبر هو التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، في معناه: «هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة»، فأنا أتدبر الآيات، أي أنظر في مدلولاتها، في مقاصدها، في نظمها ورسمها، في أوامرها ونواهيها، في حلالها و حرامها، في حقيقتها ومجازها، في ظواهرها وبواطنها، فيما يترتب عليها من نعيم مقيم أو عذاب أليم، كل هذا يقال له تدبر. لأنه ليس النظرة السطحية للآيات، وإنما هو النظر إلى عواقب وأدبار هذه الآيات. والقرآن الكريم أمرنا بالتدبر في آيات كثيرة، منها: قوله: في سورة ص:29] كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ وفي سورة النساء:]َفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[، وفي سورة محمد ] أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[. فالغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها. فإذا لم يكن ذلك ، فاتت الحكمة من إنزال القرآن ، وصار مجرد ألفاظ لا تأثير لها . فربنا عز وجل لم يحجر عقولنا، بل أمر بالتأمل، والنظر في مآلات الأمور وأدبارها ومراميها البعيدة، وهذا يفتح للإنسان آفاقا كثيرة في البحث، والاستنباط، والاستدلال، والاجتهاد، ويغلق كل أبواب التقليد، و الجمود والركود، والخمول والخنوع. فالقرآن بأمره لنا بالتدبر يريد منا الإيجابية ولا يريد منا السلبية، وفي هذا رد على من يقول بأننا لا نستطيع تفسير كلام الله إلا بما ثبت عن رسول الله، أو لا نستطيع أن نفسره إلا بما فسره به الأوائل. لا لكل عصر اجتهاده، ولكل وقت علماؤه، ولكل زمن استنباطاته، فما دام الكل متمسكا بالكتاب والسنة فلا مانع من أن نحلق بعقولنا وننطلق بفهوماتنا ، لا مانع أن تكون فروعنا باسقة ما دامت أصولنا ثابتة. والتدبر بهذا المعنى الواسع لا نهاية له، فالتدبر عملية جادة، متواصلة في كل الأزمان والأمكنة، غير منقطعة وغير منتهية. وكما جاء في القرآن من الأمر بالتدبر، جاء في سنة المصطفى، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم قال : (ما بال أقوامِ يتلَى عليهم كتاب الله فما يدرون ما يُتْلى منه مما تُرِك، هكذا خرجتْ عظمةُ الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدتْ أَبدانُهم، وغابتْ قُلُوبُهم ، ولا يَقْبَلُ الله من عبد عملا، حتى يشهدَ بقلبه مع بدنه» فيجب التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر. د. سمير جاب الله أستاذ الفقه والقراءات القرآنية بجامعة الأمير