غاب مالك شبل في الوقت غير المناسب، لذلك ستكون خسارته جسيمة على أكثر من صعيد. ففي فرنسا التي نشط فيها منذ ثمانينيات القرن الماضي باتت اليوم الحاجة إليه أكثر من ملحة وقد استعادت العنصرية السوداء عافيتها، هو الذي حمل على عاتقه عبء تصحيح الصورة السلبية للمسلمين، الصورة التي اجتهد المسلمون أنفسهم في رسمها وزينتها نخب غربية عادت إلى جحر الهوية الأول بعد تسكع كاذب على أرصفة «الإنسانية» وفي شوارع حداثة نكصت إلى ما قبلها بعد أن استنفدت ما بعدها. وفي الغرب عموما سيفقد القادمون، اضطرارا أو عن رغبة، من جنوب منكوب سندا قويا ومحاورا محترما يُصغى إليه في وقت لم يعد يصغى فيه إلى أحد. ثم أنه لا زال في الثالثة والستين، أيها السرطان الأحمق بكتب مفتوحة وشهوات خلق لم تنطفئ. غاب مالك شبل في عصر ظلمات جديد بدأ الغرب يرفع فيه الأسوار ويضع الأسلاك الشائكة في وجه الباحثين عن حرية ساهم هو في سلبها بالاستعمار أولا وبدعم ديكتاتوريات استمر من خلالها بعد ذلك، والحق أن مالك عرف كيف ينتزع مكانة في الصف الأول للنخب بجهد كبير أعاد فيه قراءة الإسلام وتقديمه في صورة جديدة للغرب، وبالطبع سيجد من ينتقده من بني جلدته بحجة أنه لا يقدم سوى الإسلام الذي يحبه الفرنسيون والغرب عموما، ومن قسنطينة رد مالك شبل قبل عشر سنوات في لقاء نقلته النصر عبر كراس الثقافة، بالقول أنه لم ينقطع عن العالم العربي، وذكّر منتقديه بأن مكتبة الاسكندرية تخصّص له مكتبا دائما بصفته مستشارا لها كما أنه يلقي محاضرات في مختلف البلدان العربية بشكل منتظم ما يتيح له معاينة الذات العربية، هو المحلّل النفساني. ولم يتردّد في التحذير من اعتباره مواليا للغرب أو عميلا لأي بلد، مضيفا بمرارة: لا تنسوا أني ابن شهيد مشدّدا على أنه ضد الاستعمار القديم وضد كل أشكال الاستعمار الجديد. وللذين يستهجنون ظهوره الدائم بوسائل الإعلام ويعتبرونه مفكر بلاتوهات قال أنه رجل يعيش من كتبه ومن الطبيعي أن تكون الصحافة رفيق طريق ومن الغباء أن يقطع الإنسان الغصن الذي يجلس عليه. ويقترح شبل "تسويق" صورة إيجابية عن العرب والمسلمين لأن هذه الصورة لا تتشكل تلقائيا ويستغرب كيف تروّج بلدان عربية لمعالمها السياحية ولا تروّج لثقافتها، وعصر الصورة يستدعي في نظره القيام بعمل في هذا الاتجاه، تماما مثلما تقوم الشركات الكبرى بصيانة صورتها والترويج لها. المحلل النفساني ورجل الأنثروبولوجيا الذي يعتمد الحفر العميق في دراسة الظواهر، دعا إلى رفع الحواجز أمام الإسلام، ليكون إسلام الغد كما كان عليه في القرن الحادي عشر حيث كانت "الدواوين" متوفرة بعدد المساجد. لكن اختفاء هذا الإسلام وظهور إسلام آخر يتبنى العنف لا يخيف الباحث الذي يتوقع تحول مركز الثقل الإسلامي إلى الأمم الآسياوية لأسباب ديموغرافية ، حيث بات عدد المسلمين من غير العرب أكثر من العرب (08 من 10 مسلمين في العالم من أصول آسياوية) ، ومع إنتاج هذه الأمم لخطاب مخالف سيضيع العرب خطابهم ويظهر إسلام جديد، يحسب عليهم بالضرورة لأن كل ما يقال باسم الإسلام يُحسب على العرب. الذين يعرفون مالك شبل يؤكدون أن صعوده ليصبح من بين كبار المثقفين والمفكرين العرب بالغرب كان نتيجة حياة كفاح خاضها ابن شهيد عاش في المدارس الداخلية بداية من دراسته في المتوسط ثم الثانوي بسكيكدة، حيث عرف كقارئ نهم للكتب وككاتب شعر ستتغير وجهته فيما بعد، أي حين "يُفسد" علم النفس مشاعر الشاب المتوقد ويحيله على الأعماق السحيقة للأفراد والمجتمعات.في قسنطينة يقول الذين عاصروه بالحي الجامعي المعروف باسم الفيرمة أنه كان غريب الأطوار بالنسبة لهم، حيث كان يقضي الوقت الطويل على الطاولة قارئا أو كاتبا، وما أثار استغرابهم أنه كان يستخدم أدوات مدرسية لا تلائم اختصاصه في العلوم الإنسانية، حيث كان يحتفظ دائما بمسطرة وقلم رصاص وممحاة! أدوات سيطورها فيما بعد، حين ينتقل إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا في علم النفس الإكلينيكي التي تتدعم أيضا بدراسة الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية. وعوض أن يضيع شبل في غياهب البحث، وجد شفرات التواصل بدخوله عالم الكتابة والنشر بموضوعات "مطلوبة" في سوق المعرفة الغربية، خصوصا كل ما تعلق بالجنس والدين والجسد في العالم الإسلامي، حيث قدم شبل أطروحات غيرت المفاهيم حول الإسلام المسوق من طرف قوى ظلامية أو إسلام المستشرقين وحتى الباحثين من أصول عربية الذين تفتقد ثقافتهم للعمق بسبب عدم إتقانهم العربية وبالتالي عدم توصلهم إلى المصادر الأساسية لمواضيع كتاباتهم، ولم يكتف شبل بذلك بل قدم أعمالا مبسطة للتعريف بالاسلام وبالجنس في الإسلام للقارئ الغربي ورافع عما أسماه إسلام الأنوار، في وقت اشتد فيه التطرف الإسلامي والتطرف الذي يستهدف المسلمين أيضا. وقد كشفت مؤلفاته وأيضا حواراته ونقاشاته في التلفزيون وجها مغيبا للمسلمين، حيث فاجأ المتلقي الفرنسي بحقائق من نوع أن المسلمين هم أول مخترعي الواقيات والمقويات الجنسية، ومن المرات القليلة التي لم يخطئ فيها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وهو يوشحه بوسام الشرف حين قال مخاطبا شبل:" بفضلك اكتشفت فرنسا وأعادت اكتشاف إسلام يعرف ويحب الحياة والرغبة والحب والجنس".وباختفاء مالك شبل سنحتاج إلى إعادة طرح الأسئلة المرّة ذاتها: لماذا لا تستفيد الجزائر من نخبها؟ لماذا لم تستفد الجامعات الجزائرية من مالك شبل؟ وربما سيصدم القارئ حين يعلم أن العودة اليتيمة له إلى جامعة قسنطينة التي كونته كانت بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي، و كان حينها متأثرا للغاية وهو يعانق زملاءه القدامى؟ لماذا تنفق الجامعات الجزائرية على جامعيين مغمورين في ملتقيات عديمة القيمة والفائدة ولا تستضيف باحثا ومفكرا من حجم شبل؟ إلى متى هذه القطيعة بين العقل الجزائري وبقية أعضاء الجسم؟ وإلى متى تظل الأعضاء النبيلة في الجسم أقل شأنا من الأعضاء الأقل نبلا؟ العزاء في حالة شبل أنه قرّر أن ينام بيننا في "هجعته الأخيرة" ولم يهرب بسريره بعيدا كما فعل محمد أركون وجمال الدين بن الشيخ.