أكدت المختصة في التاريخ الحديث و المعاصر بالمركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا، حليمة مولاي، بأن المذكرات تعتبر مادة مرجعية يمكن الاعتماد عليها في عملية التأريخ، رغم مشكل الذاتية، و احتمال المبالغة في وصف بعض الأحداث أو الأشخاص و إمكانية مجانبة الحقيقة، و ترى الباحثة، بأن توظيف المذكرات و السير في عملية الكتابة التاريخية، مرهون بإخضاع مضمونها للمنهج العملي و التعامل معها بحذر، وفق منهج تحليلي نقدي دقيق، كما أشارت في حوارها مع النصر، إلى بعض الجوانب المتعلقة بهوية كاتب المذكرات، و بمدى إمكانية تصنيف الشهادات الشفوية، كمصدر من مصادر التأريخ. حاورتها هدى طابي النصر : هل يمكن للشهادة التاريخية المكتوبة أن تنتج معرفة علمية مثلها مثل الوثيقة؟ حليمة مولاي: عندما نتحدث عن مصادر الكتابة التاريخية، فإننا نتحدث هنا عن الوثيقة و عن الروايات الشفوية و عن الشهادات التاريخية المكتوبة و عن الصور، و حتى الكتابة على الجدران و غيرها من المادة التي تساعد المؤرخ على كتابة التاريخ، وإنتاج معرفة تاريخية علمية و الوصول إلى الموضوعية، عن طريق التعامل مع المادة العلمية التي يملكها على قدر واحد من الأهمية، من خلال نقدها بنفس الأساليب العلمية المنهجية، حيث تعد المذكرات، من أكثر الشهادات التاريخية المكتوبة التي يعتمد عليها عموما. إلى أي حد يمكن اعتبار المذكرات نوعا من أنواع التأريخ و مصدرا من مصادره، وكيف يمكن التعامل مع مشكل الذاتية و محاولة تحوير بعض الحقائق مثلا؟ هناك من يعتبرون بأن المذكرات ليست نوعا من أنواع التأريخ أو كتابة التاريخ، وهو أمر مستغرب، فصاحب المذكرات، يريد أن يؤرخ بطريقته وبأسلوبه لحدث تاريخي معين، قد يكون حدثا مرتبطا به شخصيا شارك فيه أو حضره، وقد يتعلق الأمر بحدث سمع عنه و وصل إليه عن طريق أخبار و روايات شفوية، و كيف ما كان الأمر ، فإننا نتحدث عن الحدث التاريخي، و عليه فإنه من غير الممكن للمؤرخ في هذه الحالة أن يتجاهل مثل هذه المادة التاريخية المهمة، لأنها تضاهي الروايات الشفوية. ربما قد تطرح مخاوف بخصوص كاتب المذكرات، الذي قد يحيد عن الحقيقة، و قد يميل إلى تعظيم الذات، مما قد يسقطنا في فخ الذاتية، لكن هذه الأمور تخصه هو ولا تعني الباحث أو المؤرخ، لأن عمل هذا الأخير هو النقد، وإعادة بناء التاريخ، وفقا للمادة العلمية التي بين يديه، وتحليل هذه الشخصية « النرجسية» التي كتبت المحتوى، دون أن يخشى من تحليل المذكرات و التعامل معها كمصدر و الاعتماد عليها في أبحاثه، لأنه يهدف للوصول إلى الموضوعية و الحقيقة من خلال النقد. علما بأن الالتزام بالمذكرات قد يشكل خطرا على التاريخ، إذا كان التزاما أعمى، بمعنى أن الباحث يعيد ما كتب، دون تحليله، تحليلا منطقيا أو مقارنته بمادة علمية أخرى، وهو نفس الخطأ الذي قد يقع فيه، خلال تعامله مع الوثيقة، في حال أعاد كتابة محتواها، كما ورد تماما، دون تحليله أو نقده أو إبداء رأيه بشأنه، أو طرح تساؤلات حوله و إجراء مقارنات تخصه، لذلك فإن المذكرات، حسب رأيي، ليست المادة الوحيدة التي تستوجب التدقيق، بل كل مادة لا يمكن نقدها أو تحليلها. هل خدمت فعلا الإصدارات التي قدمتها شخصيات وطنية على مر السنوات، عملية الكتابة التاريخية في الجزائر؟ مؤخرا ظهرت العديد من المذكرات التي تخص الجزائريين، والفاعلين خصوصا في الثورة الجزائرية والحركة الوطنية، وهي إصدارات من شأنها أن تساعد على الكتابة التاريخية، من خلال إعادة النظر في عدة قضايا وطنية و عدة أحداث تاريخية أخرى، و ذلك لا يعني بالضرورة نفي ما كتب سابقا واعتماد ما يكتب حاليا، بل تقديم مقاربات جديدة حول هذا الحدث التاريخي و تقديم رؤى وتصورات و مواقف جديدة، عبر المقارنة بين المعطيات الحديثة والقديمة، لهذا فقد وجب الاهتمام كثيرا بنقد وتحليل المذكرات التاريخية، و ليس منعها و التقليل من قيمتها. من هم المخولون بكتابة المذكرات التاريخية أو جمعها و تدوينها على الأقل، وهل هناك شروط منهجية وعلمية لضبط هذا النوع من الكتابة التاريخية؟ نقول غالبا أن صاحب المذكرات هو من يكتبها، لكن السؤال الذي يجب أن يؤرقنا كباحثين، هو مدى واقعية هذا الطرح، و هل المجاهدون والفاعلون التاريخيون، هم فعلا من دونوا و أصدروا مذكراتهم التاريخية أم أنهم اعتمدوا على طرف ثان، لأنه مكمن الإشكالية، كوننا سنقف أمام معضلة أخرى، تتعلق بمدى مصداقية وأمانة هذا الطرف الثاني، في توثيق كل ما أملي عليه، وهل يمكن أن يكون قد غير في بعض المصطلحات والحروف و المعاني، وهل يشير هذا الوسيط إلى تدخله الشخصي في رواية الأحداث، بوصفه كاتبا للمذكرات، أم أن تدخله مبهم إلى حد يصعب على المؤرخ التفريق بين ما دونه الوسيط و ما قاله صاحب المذكرات، لذلك وجب التعامل معها، بناء على هويته من جهة و هوية من كتبها أو دونها من جهة ثانية، مع التأكد من مدى إخلاصه و مصداقيته و سمعته في كتابة المذكرات. لابد من القول أيضا، بأنه من الصعب علينا تصنيف الأشخاص، و تحديد من المخول بينهم للكتابة، فقد نقول بأنه المؤرخ مثلا، لكن حتى هذا الأخير، قد يضعف أمام النزعة العلمية، و قد لا يكون أمينا في النقل من باب الحذر و الاعتماد على التحليل و النقد، لذلك فإنني كباحثة، أفضل أن يكتب الفاعل التاريخي مذكراته بنفسه، دون تدخل أي وسيط، و أن يكتبها بطريقته و أسلوبه و باللغة التي يعتمد عليها، لكي يوصل إلينا المعنى الحقيقي الذي يريده. ماذا عن الشهادات الشفوية هل تعد أيضا مصدرا مقبولا في عملية التأريخ، أم أن شرط التدوين ضروري في هذه الحالة؟ الرواية الشفوية ليست فقط مصدرا مقبولا للتأريخ، كما يرى البعض، بل هي مصدر فعلي للكتابة التاريخية، فهناك مدرسة حوليات كاملة حول الرواية الشفوية، و يمكن للباحث أن يكتب حول التاريخ و حول الذاكرة انطلاقا منها، لذلك فإنه يتعين على الباحثين عدم التقليل من أهميتها أو قيمتها في عملية الكتابة، شريطة التعامل معها كأية مادة تاريخية أخرى أي بحذر و بنقد منهجي، حتى نصل إلى كتابة تاريخية مقبولة بعيدة عن الذاتية و النرجسية، و بعيدا أيضا عن الجدال و النقاش التاريخي الذي غالبا ما يكون دون منفعة أو هدف معين، بل قد يكون مضرا بالكتابة التاريخية أكثر مما قد يفيدها.