مدينة حمراء يجري الجمال والكرم بين أزقتها و واحاتها عندما تمتزج الأصالة بروح عصرية في المدن الصحراوية ، تبعث مشاعر الارتياح في ذوات زائريها على اختلاف أعراقهم ، و تترك في نفوسهم أمال الشوق لهذه الأمكنة أملا في العودة للتجول بين أحيائها و مناظرها السياحية التي حباها بها الله لتكون لوحة من لوحات الجمال ، مدينة أدرار واحدة من بين هذه المدن ، لا تكاد تفرق زوارها من قاطنيها الأصليين في تعايشهم ، الوجه المبتسم و الكرم الأصيل يتدفق بين أزقتها و شوراعها من الكبير و الصغير ، تجدهم يتسابقون للرد على التحية بسلام ، و يقابلونك عند الحديث إليهم بوقار . مبعوث النصر: عثمان بوعبدالله امتطينا الطائرة من الجزائر العاصمة باتجاه هذه المدينة ، وجوه ناعمة و أجناس مختلفة غلب عليها الجنس الأصفر على متن الطائرة ، هم صينيون عائدون إلى أماكن عملهم في شركة تمييع الغاز " سورال شين " بمنطقة السبع ، أساتذة جامعيون قادمون من مختلف الجامعات لحضور فعاليات الملتقي الدولي الرابع عشر بعنوان التغيير الحضاري و تحدياته ... رؤية مستقبلية بجامعة أدرار ، محتوى هذا الملتقى يعطي نظرة عن بحث هذه المدينة عن مستقبل مشرق يستجيب للتغيرات الحضارية الحاصلة في العالم و إفرازات الصراع بالمنطقة ، توجهت إلى مقعدي حسب الرقم المسجل في التذكرة فوجدته مشغولا ، قال لي أحدهم هذا صديقنا هل بإمكانك الجلوس في مكانه بالجهة المجاورة ، ابتسمت و توجهت إلى مقعدي الجديد فوجدت امرأة بجواري بدا من ملامحها أنها أجنبية ، بادرتني بالتحية " السلام عليكم " قبل الجلوس فرددت عليها بالمثل ، ابتسمت و قالت أنا أستاذة في تاريخ المجتمعات بجامعة أمريكية و قد اعتنقت الإسلام في رمضان العام ما قبل الفارط ، تجاذبنا أطراف الحديث و ما هي إلا لحظات حتى أقلعت الطائرة ، أضافت مرافقتي " ماريان كوبن " أنها تتوق لرؤية الصحراء و مدينة أدرار و أهلها ، لكن برنامج المحاضرات مكثف يتخلله يوم واحد لزيارة المعالم الأثرية للمدينة الحمراء ، لم نشعر بالرحلة إلا بعدما تراءت إلى أنظارنا مظاهر الرمال و واحات النخيل على شساعة الصحراء الجزائرية ، و كأنها أمواج متلاطمة من الرمال شكلت لوحة من الجمال ، وصل موعد النزول بمطار أدرار الدولي ، ودعتني " ماريان " تمنيت لها إقامة سعيدة و طلبت منها موافاتي بانطباعها عن جولتها في نهاية الزيارة . رحلات جوية يومية بمطار أدرار تريح المسافرين و السواح من التنقل برا يعتبر مطار أدرار الدولي " سيدي محمد بلكبير " مكسبا لسكان المنطقة ، لما يوفره للمسافرين من راحة حيث تم تشييده وفق النمط العمراني السائد بالمنطقة مع إضفاء لمسة عصرية على مختلف الأجنحة بداخله ، فضلا عن خضوعه لعملية توسعة قبل عامين بغلاف مالي قدره 33 مليار بعد غلقه لمدة تجاوزت الثلاث سنوات و نصف ، ما سمح بتوسعة مدرج هبوط الطائرات، و جعلها تستجيب للمواصفات الدولية و مواتية لهبوط الطائرات الكبيرة ، بعدما كان يقتصر نشاطه على استقبال الطائرات صغيرة الحجم ، و هو ما انعكس بالإيجاب على حركة النقل الجوي بتخصيص رحلات يومية نحو مطار الجزائر العاصمة هواري بومدين و مطار السانية بوهران ، و تقليص أوقات السفر إلى اقل من ساعتين ، إذا علمنا أن مدة السفر في حافلات النقل البري بين العاصمة و أدرار تستغرق أزيد من يوم و نصف لبعد المسافة التي تتجاوز 1500 كيلومتر ، و قد ساهمت حركة النقل الجوي عبر مطارات أدرار الثلاثة بما فيها مطار تيميمون و كذا مطار برج باجي مختار في استقطاب أعداد هائلة من المسافرين و السواح إلى هذه المناطق الصحراوية المترامية في أقصى الحدود الجنوبية الغربية للبلاد ، و لعل ما يزيد من ارتياح المسافرين بمطار أدرار الدولي هو تواجد وسائل النقل و سيارات الأجرة في مختلف الأوقات بالساحة المجاورة للمخرج الرئيسي للمطار التي تتميز هي الأخرى بلوحات تزينينه و تهيئة غاية في الجمال ، مقابل أجرة قدرها 100 دينار في حال التنقل الجماعي من المطار إلى مدينة أدرار البعيدة عنه ببضع الكيلومترات على متن سيارات الأجرة و 400 دينار للنقل الفردي . العلامة "سيدي محمد بلكبير" عنوان تمسك سكان المنطقة بالامتداد الروحي لمشايخها وعلمائها الكبار بمجرد النزول في المطار ينتابك من التسمية التي أطلقت عليه " سيدي محمد بلكبير " ذلك الامتداد الروحي لسكان المنطقة و الوفاء لعلمائها و مشايخها الكبار ، حيث لا تكاد أحياء المدينة تخلو من صور هذا العلامة رغم مرور أزيد من 12 سنة على وفاته ، و يعتبر العلامة " سيدي محمد بلكبير " الذي ولد و ترعرع بمنطقة لغمارة في إقليم بلدة بودة غرب مدينة أدرار ، من بين أهم المشايخ في المنطقة ، لما له من علم وفير و مكانة في قلوب سكان المنطقة و بين تلاميذته من مختلف جهات الوطن و أقطاب المعمورة خاصة بالدول المجاورة مثل مالي و النيجر و تجاوزت سمعته هذه الدول إلى ليبيا و مصر و المغرب الأقصى ، تتلمذ الشيخ على يد عمه منذ صغره و انتقل بعد بلوغه سن الرشد إلى مدينة العلم و حاملة مشعل التعليم و التثقيف في تلك الفترة منطقة تمنطيط أين تلقى دروس الفقه و الشريعة و اللغة العربية على أيدي عالم زمانه بالمنطقة الشيخ " سيدي أحمد ديدي " ، و بعد حفظه للقرآن و حمله لقواعد النحو و اللغة العربية، أراد توسيع دائرة معارفه و استأذن شيخه للتنقل إلى مدينة تلمسان ، و تقول بعض المراجع أنه أراد التوجه إلى جامع القرويين بالمغرب ، غير أن والده اختار له مواصلة تعليمه على يد شيخ الطريقة الكرزازية بتلمسان ، و تنقل بعدها إلى جامع القرويين بفاس في المغرب و جالس علماءه و كذا إلى مصر ، ليعود بطلب من أبيه بعدما أحس بتعب السنين إلى منطقة بودة في منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر ، و عند سماع أعيان تيميمون بعودته طلبوه لتعليم أبنائهم و مكث هناك لمدة ثلاث سنوات ، قبل أن يعود إلى منطقة بودة أين افتتح مدرسة لتعليم الشريعة و فقه الدين و الأدب بمساعدة المحسنين ، ما ساهم في التقليل من وطأة الأمية المنتشرة و إمداد أهل المنطقة بتعاليم الدين الحنيف و صونهم من سياسة طمس معالم المنطقة التي اعتمدها المستعمر الفرنسي ، ليتنقل بعدها إلى مدينة أدرار أين أنشأ مدرسة بها و تولى شؤون تعليم و رعاية و إيواء و إطعام تلامذته بهذه المدرسة التي تحولت فيما بعد إلى المسجد الكبير الذي يتوسط مدينة أدرار و الحامل لاسمه " سيدي محمد بلكبير " ، يروي سكان المنطقة ممن التقت بهم " النصر " عنه زهده في الحياة و بشاشة مظهره و حبه للبس العمامة التي تتناسق ألوانها مع لون لحيته البيضاء ، إلى جانب عمله على تثقيف أبناء المنطقة و تصديه لمظاهر البدع و الانحراف و إصلاح ذات البين لما يحظى به من جاه في العلم و وقار و احترام بين السكان و عموم الناس ، إلى جانب ما يتناقلونه عن علاقته الطيبة برئيس الجمهورية " عبد العزيز بوتفليقة " الذي حضر جنازته بعدما وافته المنية يوم الجمعة 15 سبتمبر عام 2000 ، و توشيحه بوسام الجمهورية سنة 1999 و قبلها شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة السينيا بوهران . المدينة تحتاج إلى فندق يفوق في سمعته فندق توات كانت الشمس تنذر بغروبها عند وصولنا إلى المطار استقليت سيارة أجرة باتجاه مدينة أدرار ، سألت السائق عن فنادق المدينة ، فرد أن معظم زبائنه يتوجهون إلى فندق " توات " التابع لمؤسسة فندقية عمومية ، الذي يتوسط قلب المدينة بمحاذاة ساحة الشهداء ، لكنه استدرج في الحديث بالقول أن زميله قد فتح فندقا جديدا يقدم خدمات أفضل لكنه بعيد عن وسط المدينة ، اخترت الذهاب إلى فندق " توات " ، و بوصولي إليه ، دخلت إلى بهو الاستقبال و توجهت نحو العون المكلف بحجز الغرف ، فاجأني بكون جميع الغرف محجوزة للأساتذة القادمين للمشاركة في الملتقى الدولي الذي تنظمه جامعة أدرار و كذا الوفد القادم من ولاية ايليزي للمشاركة في الأسبوع الثقافي، تريثت قليلا و نظرت إلى الخارج كان الظلام قد بدأ يتهيأ لاحتلال أرجاء المدينة ، تبادر إلى ذهني ، ما ذا سيفكر فيه السواح الأجانب في حال حلولهم بهذا الفندق الذي يتوسط هذه المدينة الصحراوية السياحية ، و تذكرت حينها أن سائق سيارة الأجرة قد منحني بطاقة عليها رقم هاتفه ، اتصلت به و طلبت منه العودة لكي ينقلني إلى فندق زميله، لكنه اعتذر و طلب مني الانتظار إلى حين عودته من المطار ، حينها سمعت صوت العون في مكتب الاستقبال من خلفي ، لحسن حظك فإن موعد التحاق فرق الفلكلور و وفد ايليزي قد تأجل إلى يوم الغد ، يمكنك أن تحجز غرفة اليوم ، و لا اضمن لك الإقامة في اليوم الموالي إلا في حال شغور إحدى الغرف ، وافقت على العرض أخذت مفتاح الغرفة و غادرت المكان فتحت الباب فاستقبلني مظهر جميل لأشجار النخيل المشرئبة أعناقها في أناقة وسط ساحة صغيرة تفصل بين الغرف المرتبة في شكل مربع على طابقين ، و ما كدت أن أضع أول خطوة على السلالم حتى واجهتني الحالة المزرية للأجر في الأدراج ، و بدخول الغرفة " 226 " في الطابق الثاني ، قابلني جهاز التلفاز القديم و التجهيزات التي بدت عليها مظاهر التعب ، و الأفرشة البالية التي بقيت بدون تغيير منذ مدة و لم يرحمها زوار الفندق و كووها بنيران سجائرهم ، دخلت إلى المرش فوجدت وضعيته لا تقل عن الوضع السائد بالغرفة ، و في صباح اليوم الموالي هممت بالخروج فواجهني أحد العاملين بمكتب الاستقبال بوعيد ظريف و ابتسامة ، عليك حزم أمتعتك احضر حقيبتك وضعها في قاعة الاستقبال سوف أحجز لك غرفة في حال مغادرة أحد الزوار و لا أعدك بذلك عليك العودة قبل منتصف النهار ، غادرت الفندق و بينما أن أتجول عثرت على نزل جديد و حجزت هناك ، و عند العودة لاستلام أغراضي وجدت المكلف بحجز الغرف قد وفى بوعده لكن بعد ماذا . الفقارة ... تقنية السقي التي أبهرت العلماء و المهندسين و لعل ما يجذب انتباه الزائر لمدينة أدرار هو منظر تلك الآبار المتراصة و المتسلسلة في خطوط مستقيمة على امتداد البصر تشق عديد الشوارع و الأحياء ، تعرف محليا بتسمية الفقارة و هي تقنية للسقي موروثة منذ القدم ، ترتكز على انسياب المياه بين هذه الآبار المتصلة ببعضها البعض إلى واحات النخيل و البساتين إلى أن تصل مياهها إلى سطح الأرض ، و يقال أن هذه التقنية التي ابتكرها أناس عاديون في قلب الصحراء لمواجهة غور المياه في باطن الأرض ، حيرت علماء و مهندسون في دقة انجازها المتناهية و كذا في طرق قياس تدفق المياه بها و توزيعها على المساهمين في عملية الحفر عبر السواقي وفق برنامج مدقق يعرف بنظام الحبة . و رغم تمسك السكان المحليين بهذا الموروث و إطلاق برامج للحفاظ عليها و ترميمها و تنقيتها في كل عام ، تبقى الفقارات ببعض الشوارع و التجمعات السكنية في مدينة أدرار تعاني من الإهمال ، حيث تحول البعض منها إلى أماكن لتجميع القمامة فوق أغطيتها الإسمنتية التي وضعت للحيلولة دون تسرب الأوساخ و الأتربة إلى عمقها . طابع معماري مميز و للضيوف مكانة خاصة تتميز ولاية أدرار بطابع معماري منفرد بصبغة حمراء تضفي رونقا و جمالا لهذه المدينة التي شهدت توسعا و امتدادا لنسيجها العمراني في مختلف الجهات ، صاحبته مشاريع تنموية لتجديد البنى التحتية من توصيل لشبكات التطهير و المياه و تهيئة الأحياء و جعلها متناسقة في العمران ، فالمتجول بهذه المدينة و عبر فضاءاتها الواسعة يكتشف ذلك المجهود لإعطاء وجه جديد لهذه المدينة بصبغة جمالية تزينها أشجار النخيل على الأرصفة و في الساحات العمومية ، لولا اطلاعه على بعض النقاط السوداء في قلب المدينة و بالنسيج العمراني القديم الذي أضحى يعد بنايته المنهارة الواحدة تلو الأخرى و كذا مظاهر البناءات الفوضوية بالحي الغربي أو ما يعرف بتسمية " حي ابني و اسكت " . أما داخل البيوت فيخصص سكان المنطقة جناحا خاصا للضيوف ، يوضع تحت تصرفهم ، لتوفير سبل الراحة و إبعاد الحرج عنهم . ساحة الشهداء ... زرابي مفروشة و أكواب الشاي و المكسرات و لقاء الأصدقاء في سهرات ليلية تفرش الزرابي و قطع القماش عبر أرجاء ساحة الشهداء " لابلاس " التي تتوسط قلب مدينة أدرار ، بعد صلاة المغرب لتضخ في ليلها حياة جديدة ، و يتهيأ باعة الشاي على جوانب الساحة لاستقبال زوارهم ، مجموعات من الشباب و الأصدقاء على اختلاف أعمارهم يشكلون حلقات دائرية ، تجدهم يرتشفون الشاي و يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم ، فيما ينهمك آخرون في لعبة " الدومينو " ، اقتربنا من بعضهم فقالوا أن هذه الساحة تعتبر المكان المفضل لالتقاء الأصدقاء أثناء فترات الليل و متنفسهم من روتين اليوم و متاعب الحياة . شباب آخرون وجدوا في هذا الإقبال، مخرجا لهم من شبح البطالة ، يضعون طاولاتهم على امتداد أطراف الساحة لبيع الشاي و المكسرات و البيض المسلوق ، اقتربنا من أحدهم فقال أن هذا النشاط يجني له ما يكفي من المال لإعالة أسرته ، لكنه يعرف تراجعا في فصل الشتاء لبرودة الطقس أثناء الليل و يعرف أوجه في فصل الصيف و موسم الحر و خصوصا في شهر رمضان، أين تتحول الساحة إلى ملجأ لعشرات العائلات و الشبان و الأصدقاء و حتى السواح و زوار المنطقة هروبا من ارتفاع درجات الحرارة داخل المنازل ، حيث تتواصل سهرات المدينة إلى ما بعد الثانية صباحا . هي يوميات و ليالي أدرار ، تشعرك بالأمان و المتعة ، قبل أن ننهي الزيارة على مدار أسبوع كامل التقينا ب " ماريان " لأخذ انطباعها عن جولتها فقالت ما كتب في المقدمة .