"نجمة" سعيد خطيبي التي تقرأ الجزائر الجديدة ينفتح المشهد على راويّة يخبرنا أنه اتخذ القرار الحاسم في حياته في ستة أيام، أي أنه استراح قبل اليوم السابع متفوقا في صنيعه على أسطورة الخلق كما جاءت في الكتاب المقدس، وينغلق المشهد على قرار آخر بلسان الراويّة ذاته مرويا عن تلك التي أتخذ القرار الأول بشأنها. وبين تدخلي الراوي يجري سرد بديع على لسان المعنيّة بالأمر كلّه، سرد يدفع إلى استنتاجين، أولهما أننا أمام كاتب يعرف جيدا ماذا يفعل داخل الرواية فيصعب علينا أن نصدق أن الأمر يتعلق بروايته الأولى، ويحيرنا الاستنتاج الثاني في كيفية نجاح الكاتب الرجل في تقمص بطلته الأنثى بشكل رهيب. إنها رواية "كتاب الخطايا" لسعيد خطيبي الصادرة منذ أيام قليلة عن منشورات "آناب" بالجزائر، وهي الرواية الأولى التي ينشرها هذا الكاتب والصحفي الذي أصدر عدة كتب قبلها. سليم بوفنداسة في "زلة فاضلة " يبلغنا الراوي أنه اتخذ قراره الأكثر جرأة أو حماقة في حياته غير مكترث بالعواقب، وأنه ترك كل شيء جانبا من أجل تنفيذ ذلك ولم يكن في حاجة إلى نصيحة ناصح فيما أقدم عليه. سنعرف سريعا أنه قرّر الارتباط بامرأة قد يعتبرها أحدهم ساقطة، إنها "كهينة" التي عادت من الماضي، من الثانوية لتسلمه حياتها القليلة أو يسلمها حياته لكنها ستنفرد بالبطولة المطلقة تاركة له شرف تقديم الحكاية وإنهائها على الطريقة التي ارتضتها هي لذلك. وقد كان هذا الارتباط صدفة فهي ليست من النوع الذي يستهويه لا جسديا ولا فكريا، وفي المرحلة التي عرفها في الثانوية كانت عشيقة لابن تاجر "ثقيل الظل أنثوي المزاج"، وفوق ذلك فقد كانت بيضاء وهو يميل إلى السمراوات، ويبدو أن ما ربطه بها هو "مخطوط حكايتها"، نعم، فإسماعيل كاتب وأقصر الطرق إلى قلبه حكاية تستهويه، لقد قرأ المخطوط وأعاد فاكتشف وكأنه يقرأ سيرته المكبوتة، وتخيل لها نهايتين الموت انتحارا أو قتلا من طرف أهلها، فكر في نشر الحكاية مسلسلة في الجريدة التي يشتغل بها أو على صفحته على الفايسبوك لكنه اصطدم باعتراض رئيس التحرير وخشية عدم تصديق الناس لما يروى، ولم يكن يدري أكان ارتباطه بها من باب التعاطف أو من باب التماهي مع "كاتب ياسين" الذي حدثه أحد مريديه عن علاقاته النسائية. ولعلها روت له فصولا من سيرتها المفجعة في تلك الليالي التي كان يقرأ لها مقاطع من نجمة ياسين وأشعاره. لقد تعلم منها الاصغاء لصوت الأنثى المكسور وعلمها كيف تتحرّر لتكشف المستور، ولا يلبث الراوي أن يتوارى تماما ويترك لها شرف الكلام كلّه، فنجد أنفسنا إزاء ملحمة امرأة عادية، لا بأس أن تبدأ سرد سيرتها ويومياتها من صبيحة رأس السنة الأمازيغية، السنة الجديدة التي لن تضيف إليها شيئا عدا المزاج المعكر الذي يثنيها عن الذهاب إلى العمل صباحا. ألم أسفل البطن يذكر بألم الأنثى وعادتها. سنعرف سريعا أنها امرأة بسيطة، غير مثقفة أو معشوقة خارقة للعادة كما في الروايات وفي السينما، امرأة محدودة التعليم تحوز ديبلوم تقني سامي في البرمجة وتشتغل مستقبلة هاتف في شركة دواء بشارع محمد الخامس في العاصمة، وسنقطع معها يوميا مسافة مرعبة بين عين النعجة حيث تقيم في "عمارة بلا تاريخ" لا يعمر فيها ساكنوها طويلا ووسط الجزائر. وربما حلت اللعنة بها وبالعائلة بالقدوم إلى هذه العمارة . هواجس البطلة بسيطة، أن تتزوج لتتخلص من كلام الناس، أو تهاجر إلى بلد لا تتعذب فيه، ولا يعترض سبيلها فيه معترض ولا تسمع الغزل الفاحش وتحصل رجلا وسيما مفتول العضلات يحبها ويحميها.هي التي عاشت قصص حب غير مكتملة أو لنقل كاذبة انقادت لها بسذاجة الأنثى، بداية من حكايتها مع كمال في الثانوية الذي وعدها بتعويض ما أخذ منها بزواج تبين أنه وعد كاذب ومرورا بخطيبها كمال سائق الطاكسي المعقد، القادم من وادى سوف، الذي لا تشعر نحوه بانجذاب حقيقي أو توفيق الصحفي المثقف الجنوبي بدوره والذي لا يكشف عن وجهه الحقيقي إلا بعد أن يزرع في أحشائها ثمرة، هي بنت مضاجعة يتيمة لم تبلغ فيها لذتها كالعادة. أو حتى عامر العسكري الذي لم يحقق لها وعدا قطعه على نفسه: دعوتها إلى بوسعادة. وحتى وإن أخبرتنا بأنها حاولت الانتحار شنقا بعد فشلها في نيل شهادة البكالوريا إلا أن الحاجة نايلة الشوافة تعتقد أنها ستموت في الخمسين، بعد أن تجني مالا وفيرا وتشتري سيارة، حيث يقضي عليها مرض خبيث. تعرفت كهينة على توفيق في بيت بيار المترجم الذي تخدمه مرة في الأسبوع، تنظف البيت وترتب فوضاه، بيار فرنسي الأصول جزائري الهوى، رفض مغادرة الجزائر إلا لعلاج أو مناسبات عائلية (يشبه إلى حد كبير مارسال بوا !) وظلت علاقتها بتوفيق ملتبسة : جولات في شوارع العاصمة، وأحاديث ساخنة ليلا، إلى أن وقعت الواقعة الوحيدة بينهما، ودعاها صراحة إلى الاجهاض رافضا الزواج منها، هو الذي يعيش علاقة مضطربة مع امرأة أخرى سيسافر معها إلى دبي. ستجرب كل طرائق العلاج بداية من الصلاة و قراءة القرآن أو محاولة كتابة رسالة مطولة إلى الإمام تعترف له فيها بكل شيء، لكنها ستلجأ في نهاية المطاف إلى تدوين سيرتها، السيرة التي ستربطها باسماعيل زميلها بالثانوية الذي أصبح كاتبا. ورغم تفكيرها في الإجهاض تحت ضغط توفيق أو خوفا من العائلة إلا أنها وعلى النقيض من "فضيلة" في "التلميذ والدرس" ترفض الاجهاض وتريد لطفلها أن يعيش، وذلك ما يريده اسماعيل الذي يرى في هذا القادم الجديد بطلا أسطوريا سيحمل معجزة الصوت عن سلفه آيت منقلات كي يدوم اللسان الأمازيغي المعذب في أثير الله. وفي السياق تجري حيوات وتتقاطع مصائر في فضاء الجزائر العاصمة، الذي يقدمه سعيد خطيبي في بانوراما مدهشة، حيث عرض الحياة العاصمية في لوحة فنية يمكن اعتبارها أيضا وثيقة سوسيولوجية لا ترصد معاناة جيل منكسر فحسب، بل تشير إلى إخفاق عام ، حوّل الحياة إلى جحيم وجعل الهروب عنوان حلم جيل بأسره. كما يوثق الكاتب "الحياة الجديدة" لشباب يستعين على الواقع بالافتراض الذي توفره التكنولوجيا، فيتحول التواصل الالكتروني إلى سلوك عادي في الرواية. ما الخطايا؟ لن يقف القارئ لرواية "كتاب الخطايا" على ما قد يوحي به العنوان في بادئ الأمر، لأن كهينة ليست خطّاءة، حتى وإن كلفتها لحظة رغبة انقلابا في حياتها. لكنها تظهر طيلة الرواية كمتهمة من محيطين بها يرون في "تبرجها" وتأخرها في الزواج فشلا وخطيئة، إلى درجة أنها تضيق بأنوثتها أحيانا، انوثتها التي حرمتها من أن تعيش على طبيعتها، كما تشتهي، لذلك تحسد ابنة بيار التي تفعل ما تشاء في حياتها. كما فشلت مع كل رجالها "البريكوصيين"، باستثناء اسماعيل الذي لن يكون رجلا كالآخرين، لأن الحكاية هي كل ما يعنيه. ولأنه الوحيد الذي أشعرها باللذة كما سوف تعترف له. يكتب سعيد خطيبي رواية تبدو بسيطة لكنها ليست كذلك ويذهلنا في تقمص بطلته الأنثى بشكل لم يفلح فيه بين الكتاب سوى رشيد بوجدرة في "ليليات امرأة آرق"، مع الفرق بين الروايتين في اللغة والموضوع والأسلوب والمقاصد. نعم، لم تكن حكاية كهينة حكاية عادية، لأن البطلة تحيل تلميحا وتصريحا إلى سواها ، لكأن كهينة هي نجمة سعيد خطيبي، المرأة المنتهكة، المرأة المظلومة من رجال الداخل، هذه المرة، لكأنها الجزائر المعذبة: "شممت في كهينة رائحة الأرض والدم. رأيت في عينيها دروب فرعون الوعرة". هكذا يعترف اسماعيل وقد استعاد خيط الحكي في نهاية المطاف، لا ليضيء الحكاية بل ليضفي عليها مسحة من غموض يوقظ شهوات التأويل كما في كل فن. سيعترف بأنه كان يختلي بها لإعادة رسم العالم في ذهنه وبأنه فشل في مقارنتها بنساء سابقات. وسوف يحب وليد كهينة ويفاجئه ويفاجئنا بتصريح غريب يعتذر فيه عما فعل سواه:" حضنت الوليد بما أوتيت من حنان وطلبت منه أن يغفر لي خطيئتي". وفي اللحظة التي يتعب الراوية من كهينته، ويبتعد عنها ليختلي بنفسه، ستسهل هي عليه الأمور كما فعلت مع غيره. ستخرج كهينة من "فجر اسماعيل" تاركة كراستها الحميمة "كراسة الحلزون"( كانت مثل الحلزون تختبئ في قوقعة ماضيها كلما شعرت بعدم الامان. تهرب إلى الوراء كلما شعرت بضعفها) على مائدة الطعام، سيفهم بعض الملاحظات التي كتبت باللهجة الجزائرية وسيستعصى عليه فهم أخرى. ستهبه حياتها كقصة قابلة لأن تروى وهي تخرج من حياته ملمحة إلى أنه ستركب قاربا يأخذها في اتجاه الشمال. تنغلق الرواية على نشيد دارج مشحون بالمرارة. يلقي الراوي ببطلته في الريح كي تصير أكبر من امرأة وكي تصير حكايتها قابلة للتأويل. وبعد كتب سعيد خطيبي "كتاب الخطايا" بلغة متقشفة أنيقة تحقق متعة القراءة، وتطرح من طرف خفي أسئلة جوهرية وهي تدين العالم عبر قصة ملحمية بطلتها امرأة عادية استعصت عليها الحياة العادية. رواية تسائل الإخفاق الجماعي بلغة غير سياسية وبأسلوب غير مباشر، كما تعودنا عليه في العديد من الأعمال الروائية الجزائرية. وهي بذلك وبغيره تفتح الباب على ريح جديدة تهب على الرواية الجزائرية.