1 المعرفة والنضال، هاجس البحث عن الحقيقة والجهر بها: هذا، برأينا، ما يمثل مجالات فاعلية المثقف بوصفه وجها ذا حضور متميز في المجتمع والتاريخ· فهو، من جهة أولى، معني بالمعرفة المتخلصة - قليلا أو كثيرا - من كل آثار الانحياز إلى المؤسسة الرسمية أو التاريخية والوصاية غير المبررة عقليا أو أخلاقيا· وهو، من جهة ثانية، ملتزم بالانخراط في العمل من أجل تحقيق نوع من الحضور الذي يجسد فعليا الإيمان بالقضية من خلال مناهضة ومقاومة كل أشكال انحراف قوة المعنى إلى معنى القوة· إن المثقف، بهذا المعنى، ذات مفكرة تمثل هيبة الحقيقة في الفضاء الاجتماعي وتمثل مرجعية القيم المنزهة عن إرادة القوة والهيمنة انتصارا للإنسان· ورغم أن المثقف - كما أشار إلى ذلك إدوارد سعيد - هو إنسان تاريخي وله، بالطبع، انتماءات شتى، عرقية وقومية ودينية وله منشأ ثقافي محدد، إلا أنه يمثل حركية وقلقا إزاء كل ما يحد من تطلعاته الكونية ونزعته الإنسانية التي تتخطى حدود التمذهب الضيق الموروث وحدود الانتماءات المفروضة عليه تاريخيا· إنه شخص يحسن إحداث تلك المسافة الضرورية بين المعطى السوسيو- ثقافي الذي نشأ في كنفه، وبين إلحاحه العقلي والنقدي وقدرته على مراجعة مسألية المعنى في الفضاء التاريخي وإعادة طرح مشكلة الإنسان في أفق الحقائق الوجودية الجديدة· هذا يعني أن المثقف النقدي - حتى وإن كان منتميا إلى مصير جماعي محدد - لا يمكنه أن يكون شوفينيا أو متعصبا· إنه التجسيد الفعلي للحساسية الأخلاقية العالية التي لا تركن إلى الانغلاق ولا ترتاح إلى آلية التدجين الهائلة التي تمارسها السلطة الرمزية، بل يبدأ بكنس كل الرواسب التاريخية التي دشنت عهود اغتراب الإنسان عن واقعه وأزمنة انكفائه على الذات الموروثة، وهذا تحت سيطرة هاجس التحرر من المسبقات نشدانا لإنسانية متضامنة وحرة· إن هذه المحددات العامة جدا التي ذكرناها في ثنايا كلامنا عن المثقف - بوصفه وجها تاريخيا تمثل دوره في التدخل في الشأن العام باسم مرجعية الحقوق والقيم والدفاع عن الحقيقة والعدالة - تبقى فضفاضة وغير ملمة بالتحولات العامة التي عرفها تغير أدواره عبر مختلف الحقب التاريخية· من هنا رأينا الكثير من المفكرين والدارسين يسهبون في تتبع مسيرة المثقفين ومحاولة معرفة وظائفهم والنقاشات العامة التي انخرطوا فيها والمواقف التي ميزتهم· وبغض النظر عن الخوض في تلك النقاشات والتحليلات الغنية التي تناولت حضور المثقف الحديث، يمكننا أن نرى مع إدوارد سعيد أن المثقف عموما هو شخص يتميز عن باقي الفاعلين الاجتماعيين بكونه إنسانا منفيا خارج جنة النظام السياسي والثقافي والرمزي السائد، ويمارس نوعا من الصعلكة التي تجعله بمأمن من الاستلاب والتدجين وتسمح له بأن يجهر بالحقيقة في وجه السلطة، أو أن يعارض بقوة خطابه خطاب القوة· 2 إن صور المثقف المعروفة تقليديا والتي طبعت هذا الوجه المقاوم لانحرافات إرادة القوة، قد تمّ تمثلها من قبل مجمل المثقفين العرب في العصر الحديث الذي شهد تنامي النزوع إلى التحديث والرغبة في التحرر من كل أشكال الاغتراب التاريخي للأمة العربية· لقد كان ذلك في عهود ازدهار اليوتوبيات الليبرالية والاشتراكية والقومية على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين· نجد - في كل ذلك - تدخل الأنتلجنسيا العربية الطليعية متمحورا حول حقوق العقل النقدي في الاستقلالية في ظل ثقافة تقليدية موروثة أصبحت تعاني كثيرا من تصلب الشرايين وتعاني من البطالة في عصر العلم· ونجد - في ما بعد - ذلك أيضا في تبني المشروعات الإيديولوجية الكبرى التي ظلت تمثل التوق إلى الخلاص التاريخي من التخلف بالبناء القومي الحديث وتحقيق دولة التنمية والمواطنة والعدالة والحصانة الحضارية· يمكن، بالتالي، أن نقرأ حضور المثقف العربي الحديث من زاوية وظائفه التي التزم بها في شكل مشروعات شمولية أراد بها مناهضة الكساح الحضاري للأمة في ظل عصر يقوم على الإبداعية والحركية والتجاوز والأنسنة· لقد أراد هذا المثقف الانسلاخ من الفضاء الرمزي التقليدي بمحاولة الانقذاف في العالم وقد أصبح متعلمنا ومتأنسنا· لقد أراد، بمعنى آخر، أن يعيش بطريقته الخاصة ما يسميه الباحث الفرنسي مارسيل غوشيه /خيبة العالم''وهو يتحدث عن ميلاد الحداثة في التاريخ الغربي· لكن الفاجعة كانت بالمرصاد للمثقف العربي الحديث الذي أراد أن يعيش قدر بروميثيوس في طبعته العربية· لقد شهد العالم في السنوات العشرين الماضية انهيار اليوتوبيات التي ارتبطت بالإيديولوجيات التي اعتمدناها صيغا للتحديث· وشهدنا على المستوى الداخلي خيبة الدولة الوطنية وفشلها في تحقيق الحرية والعدالة والارتقاء بالفرد العربي إلى المواطنة الفعلية· كان ذلك الأمر كافيا من أجل البدء بحركة المراجعة الواسعة للنزوع الشمولي في الفكر والممارسة السابقين والإعلان عن موت المثقف الإيديولوجي - حامل مشاريع الاشتراكية والوحدة والتقدم· من هنا شهدنا بداية الحديث عن المثقف النقدي الذي تخلى - نسبيا - عن الوظائف التقليدية المرتبطة بالمشاريع واليوتوبيات الكبرى ليعكف على مراجعة علاقة الفكر بالواقع، ويعمل على الكشف عن مضمرات العقائديات الكلاسيكية التي ادعت العمل من أجل تحرير الإنسان فيما كانت تنسج له معتقلا داخل نظامها الشمولي· وقد تجسد هذا الأمر في خروج الفكر العربي الطليعي من شرنقة التمذهب إلى آفاق التفكيك الذي يفضح إرادة التعسف ويكشف النقاب عن جرثومة الاستبداد في نظام الحقيقة الإيديولوجي الذي يقف مع الأصوليات التقليدية الدوغماتية على الأرضية نفسها· إنه زمن الإفاقة على ضرورة الخروج من ''السبات العقائدي- '' كما يعبر المفكر اللبناني المعاصر علي حرب· هذا ما يتيح لنا أن نقرأ حضور المثقف العربي الراهن من زاوية وظائفه كما تتحدد من خلال ممارسته الفكرية الراهنة· فقد يكون هذا المثقف من أصحاب المشاريع، مؤمنا بالتقدم ومنخرطا في المسار العام لميراث ''الأنوار ''كما تمثله أسلافه منذ قرنين· وقد يكون من أصحاب الاستراتيجيات التفكيكية التي تفضح النزوع إلى الشمولية المتصدعة تاريخيا كما رأينا· إما الحداثة ''النظام وإما الحداثة ''التفكيك: هذا هو وضع المثقف العربي في اللحظة الراهنة· فنحن، اليوم، لا نتحدث عن المثقف التقليدي أو الثوري أو الطبقي أو العضوي؛ ولا نستطيع اعتماد نماذج النظر التي ظل المفكرون الغربيون المعاصرون يعتمدونها لتصنيف المثقفين· إننا نعتقد أن وضع المثقف العربي يتجلى، اليوم، في صورتين رئيستين: المثقف الشمولي المذهبي من جهة والمثقف النقدي من جهة أخرى· ويبدو أن إلحاحات اللحظة التاريخية الراهنة، سياسيا وعقليا، أصبحت تنتصر للمثقف النقدي ولاستراتيجياته التفكيكية، وأصبحت تمنحه حق الكلام وحق التدخل من أجل مراجعة مسيرة العمل التاريخي السابق ومراجعة مسلمات الوعي الإيديولوجي وادعاءاته· لقد تبين جيدا أن نظام الحقيقة الذي كان يوجه عمل المثقف الإيديولوجي العربي، ماركسيا كان أم قوميا، هو ذاته نظام الحقيقة اللاهوتي الذي كان يدعي الانسلاخ من فضائه العام· إنه نظام المسبقات التي تشيح بوجهها عن صيرورات الواقع المعقدة وتطل عليه من علياء النظرية الشمولية· من هنا نفهم عكوف المثقف النقدي على خلخلة مسلمات الوعي المذهبي وتعرية آلياته في حجب الواقع الذي يدعي معرفته والطموح إلى تغييره؛ كما نفهم أيضا كشفه عن مضمرات كل نزعة شمولية، لاهوتية كانت أم علمانية، وميلها إلى استبعاد الآخر المختلف بحجة امتلاك الحقيقة المطلقة· نجد هذا الفتح النقدي عند المثقفين العرب المعاصرين يمتد من لحظة أدونيس إلى لحظة علي حرب· يحسن بنا هنا، ربما، أن نتوقف قليلا عند ذلك التصنيف الشهير الذي وضعه الأستاذ علي حرب وهو يرصد عمل المثقف في هذه اللحظة التاريخية من خلال نقده لبعض تجليات الأنتلجنسيا العربية، ودعوته إلى نقد الذات المفكرة التقليدية التي ملأت الساحة بشعاراتها وخيباتها· فمن جهة أولى هناك المثقف ''المبشر الذي ظل يجابه الممنوع ويقتحم أسوار التابو السياسي والاجتماعي والديني في سبيل توكيده على قيمة الحرية والعدالة مثلما رأينا عند المثقف الغربي الكلاسيكي كسارتر أو برتراند راسل أو تشومسكي· ومن جهة ثانية هناك المثقف النقدي الذي تتطلبه المرحلة الراهنة التي تشهد انهيار الشموليات والعقائديات المغلقة، وهو مثقف لا يجابه الممنوع الظاهر وإنما الممتنع الخفي الذي يتمثل في مجمل العلاقات غير النقدية التي يقيمها مع المعرفة· إن المثقف النقدي معني بتجديد مراسلاته مع العالم بتجاوز انحباسه داخل المذهبيات المغلقة على ذاتها· هذا ما يجعل منه مثقفا يبتعد عن التبشير ويقيم علاقة نقدية مع أفكاره ذاتها، تتيح له أن يسترجع فضيلة السفر في العالم وقد أصبح غابة توشوش بالسر من بعيد· نعرف جيدا أن هذا ما حرك الآلة النقدية الأدونيسية منذ زمن، أيضا، وهي تحمل في صورة جنينية الثورة على البنية المرجعية للفكر العربي والتي تبقيه أسير المسبق كما يعبر· 3 إن مرحلتنا الحالية تشهد صعودا متناميا لخطابات الهوية وانفجارا للأصوليات المختلفة· هذا مؤشر بالغ الدلالة على انتكاس مشاريع التحديث العربية التي لم تكن - في الكثير من وجوهها - إلا إعادة إنتاج لرغبة الهيمنة والاستبداد في جبة علمانية· إن الفشل التاريخي في ولوج عالم الحداثة الفعلية بيّن بجلاء فقر عملنا التاريخي في الأبعاد الإنسانية والثقافية والعقلية، وركونه إلى آليات الثقافة اللاهوتية القديمة في النبذ والاستبعاد والاضطهاد وقمع المختلف· من هنا نفهم كيف أن التحديث العربي لم يكن حداثة بالمعنى الثقافي والعقلي، وإنما تحديثا شكليا لم يمس دخيلاء الإنسان ولم يغير رؤيتنا للعالم ولم يرج بنيات تمثل العالم العميقة عندنا· لقد كان تحديثا جعل الكثير من المفكرين العرب المعاصرين يعتقدون، بحق، أن حداثتنا تمت في سياق استهلاكي لا في سياق إبداعي كما يعبر أحدهم· لم تكن الحداثة عندنا موقفا جديدا من العالم والأشياء، وإنما سياحة استهلاكية في أروقة العالم المعاصر الذي قام - كما يعلم الجميع - على ثورات معرفية وسياسية أسدلت الستار على العوالم القديمة وأنهت أزمنة الحساسيات التقديسية التي ارتبطت بها· هذا ما ينيط بالمثقف العربي اليوم، ربما، مهمة نقد الرؤى المذهبية الشمولية والكشف عما تمارسه من حجب للعالم في شرنقة النظرية، وما تمارسه من تغييب للفاعليات العقلية والنقدية من خلال إدانتها للاختلاف باسم الوحدة، وللعقل النقدي باسم النص، وللتاريخ باسم القراءة السائدة، ولفوضى التجربة باسم المرجعية· يجب الخروج - بمعنى ما - من الكساح الإيديولوجي إزاء المعرفة والعالم معا· هكذا يتاح للعقل العربي أن يطأ أرض المغامرات الكبرى التي تحتضن صيرورات العالم وتكتب تاريخه الجديد· إننا نجد هذا الأمر عند أدونيس وعلي حرب والبروفيسور محمد أركون ومعظم المثقفين التفكيكيين العرب الذين أصبحوا يفهمون الحداثة لا على أنها نظام شمولي ونظرة ناجزة منتهية، بل بوصفها موقفا نقديا وحركية لا تنتهي في اكتناه المجهول ومراجعة المسبقات في ضوء السديم التاريخي الذي نشهده·