يعد محمد أركون من القلائل الذين دعوا إلى تحديث العقل العربي الإسلامي· كما أنه عمل طوال حياته العلمية على تنوير هذا العقل عن طريق تخليص التراث العربي الإسلامي من الخرافات والشعوذة وخاصة العقيدة المتزمتة وطرق التكفير التي دأب سدنتها على إلصاق شتى التهم التكفيرية بعلمائنا· وعلى هذا الأساس جاء مشروعه الفلسفي التنويري· المسيرة الفلسفية: منذ البداية حدّد محمد أركون مسيرته الفلسفية، بحيث جعل العقل الإسلامي المتن الأساس الذي اشتغل عليه· فهو لم يقم معارضة بين المذاهب كما أنه لم يقص مذهبا على حساب مذهب آخر· كما لم ينتصر لعقيدة ضد أخرى· فمشروعه كما يحدّده هو: ''إنه مشروع تاريخي وأنثروبولوجي في آن معا''· منذ البداية تسلح بالتاريخ كمنهج وذلك لوضع المتن في إطاره التاريخي، ومن هنا وجب الحديث عن المسافة الثقافية في تناول التراث الإسلامي· أما الشقّ الأنثروبولوجي منه فيختص بإثارة الأسئلة لا الاعتماد على الأجوبة الجاهزة والأحداث الواقعة والمروية بحسب التواريخ الرسمية· منهجه: كان لمحمد أركون قناعة كبيرة بالخصوصيات الثقافية، بحيث لم تفته فرصة واحدة للتذكير بها في هذا الصدد يقول: ''لا يمكن لأي باحث أن ينقل مناهج من ثقافة وفكر ويطبقها على فكر آخر دون أن يكون على وضوح وعلم بالمناهج التي يأخذها من ثقافة أخرى''· المنهج التاريخي: من الطبيعي أن يتسلح محمد أركون بالمنهج التاريخي لأنه يشتغل على متن بدأ منذ عدة قرون وما يزال إلى حدّ الآن في إطار التشكل· على هذا الأساس ركّز على القرون الثلاثة الأولى من تشكل العقل الإسلامي· كما لم يغفل المرحلة التي كانت قبل تشكل هذا العقل· فهي بالنسبة إليه مهمة في إدراك خصوصية تشكّله· من بين ما ركّز عليه هو المسيحية لأنها شاهدة على تشكّل هذا العقل وكذا الديانات الأخرى التي كانت موجودة آنذاك؛ حتى تلك التي كانت موجودة في بلاد فارس· إذن لن تتم العودة إلى هذه الخصوصيات دون المنهج التاريخي· في هذا الإطار، يمكن العودة إلى عبد الله العروي حين قال بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات لا تاريخية· أي حصر المجتمع النموذجي في القرن الأول الهجري والعمل على استنساخه· المنهج الفيلولوجي: حين يستحضر محمد أركون المجتمع والدولة والدين والحقوق بكل أنواعها والمباح والحلال والحرام والمقدس والمدنس والطبيعة والعقل والمخيال والضمير واللاشعور واللامعقول، وكل أنواع المعرفة من المعرفة الأسطورية أو كما يسميها المعرفة القصصية إلى المعرفة الفلسفية· كان لابدّ من استعمال المنهج الفيلولوجي· هذا المنهج الذي سئل عنه ذات يوم وقال بخصوصه: ما معناه المنهاج الفيلولوجي، مثلا في القرن السادس عشر ماذا حدث بأوروبا؟ حدث ما يسميه الأوروبيون (مكَفََّّىفَمز) يعني النهضة·· نهضة ماذا؟ نهضة الفكر والثقافة المكتوبة باليونانية واللاتينية وهي المدنية اليونانية والمدنية الرومانية باللغة اللاتينية وهذه الثقافات والمدنيات كانت قد ترعرعت في جوّ ديني يسميه وثني·· دين المشركين وتعدد الآلهة (ٍَّىَفهفذ) والمسيحية تقف مع ال(ٍَّىَفهفذ) الوثنية نفس الموقف الذي يقفه الإسلام· وهذا لن يتأتى إلا باستقراء الوثائق والكتابات القديمة عن طريق هذا المنهج· المنهج الأنثربولوجي: حين يقول أركون علينا أن لا نغفل الديانات التي واكبت تشكل العقل الإسلامي، لأنها تعتبر حالات خاصة من حالاته التكوينية وإحدى الأسس الهامة في معرفة خصوصياته· فلا غرابة أن يكون المنهج الأنثروبولوجي هو الوسيلة التي يستعملها أركون في استحضار واستنطاق هذه العوامل لمعرفة الخصوصيات التي تميز العقل الإسلامي وهي مجموعة من البنيات الأنثروبولوجية تتشكل بنياتها من مجموعة من الخصائص المعقولة واللامعقولة لهذا العقل الخاضع للدراسة والتحليل· الترجمة: مع الأسف كل البلدان العربية لم تهتم بما فيه الكفاية بالترجمة· وما يعنيه محمد أركون بالترجمة ليس الترجمة في المحكمة ولكن الترجمة العلمية· هناك تراث علمي تراكَم ولا يزال يتراكم كل يوم، هناك إنتاج كل يوم لكتب تأتي بمصطلحات جديدة ولابدّ من أن نعتني بالمصطلحات الجديدة التي تُنتَج في جميع الثقافات والأفكار التي نعرفها· هاجس ضبط المصطلح عند أركون: لقد تعامل أركون مع المصطلح بكثير من الحيطة والحذر· وهذا ليس بالغريب إذا ما عرفنا أنه قد أكّد أكثر من مرة في مشروعه عن الخصوصيات الثقافية والمعرفية· وعلى هذا الأساس استعمل بعض المصطلحات كما وردت في حقلها الثقافي وفي كثير من الأحيان كان يذيلها بشرح أو بإعادتها إلى الحقل الثقافي الذي أوجدها مع مراعاة المسافة الثقافية· منها على سبيل المثال لا الحصر: : Laïcité 1 موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة· لكنه لا يقف عند هذا التعريف بل يرفض أن تكون العلمانية إيديولوجية مهمتها تحنيط الفكر وقولبته بل ربطها بالحرية· بناء عليه، فالعلمانية كما يراها أركون هي أحد تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة، ذلك أن العلمانية تعمل على احترام الفرد داخل المجتمع وتضمن حرية الضمير وحرية المعتقد الديني لجميع المواطنين دون استثناء، إضافة إلى الاعتراف بالتعددية الدينية وبحرية الاعتقاد أو عدمه· : Humanisme 2 هي تركز النظر في الاجتهادات الفكرية لتعقل الوضع البشري، وفتح آفاق جديدة لمعنى المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، مع الوعي أن التاريخ صراع مستمر بين قوى الشر والعنف وقوى السلم والخير والجمال والمعرفة المنقذة من ''الضلال''· ويقول أركون إن الإسلام شهد الأنسنة قبل أن تشهدها أوروبا في القرن السادس عشر إبّان عصر النهضة، ولكن هذه الحركة الناتجة عن مزج الفلسفة الإغريقية بالدين الإسلامي أجهضت ولم تدم طويلا، وحلّت محلّها قرون المدرسانية منذ القرن الثالث عشر، في حين ظلت الأنسنة أو النهضوية الأوروبية مستمرة وصاعدة منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم· : Les lumières 3 شكّل عصر الأنوار حلقة مهمة في فلسفة أركون، إذ يربط هذا المفهوم بالعلمانية بمفهومها الإيجابي ويقول في هذا الصدد: ''ما معنى الأنوار في القرن الثامن عشر'' هو تحرير العقل من قيود اللاهوت ومن قيود الشرع الذي وضعته الكنيسة لتراقب جميع إنتاجات العقل كما يراقبها العلماء والفقهاء عندنا بنفس الشيء حتى لا يتعدى العقل فيما ينتجه ويفكر فيه الحدود التي وضعتها علوم اللاهوت في الكنيسة· وكما أشرنا في حديث سابق هذا ينتمي إلى ممارسة السلطة السياسية وتستعمله السلطة السياسية لتسهيل وتوجيه العقل فيما يقولون، الأنوار حرّرت العقل من هذه القيود وأصبح العقل يطرح أسئلة كما طرحتها في التاريخ وأصبح العقل يمكنه أن يكتب تاريخ الأديان، التاريخ المقارن للأديان هذه محاولة بدأ بها العلماء بأوروبا في القرن التاسع عشر· قبل ذلك ما كان يمكن التفكير في هذا ولا نحن إلى الآن· وذكرت في كثير من البلدان مثلا مفهوم الظاهرة الدينية لماذا الظاهرة الدينية؟ ظاهرة القرآن الإسلام مفهوم ليس ظاهرة هذه والظاهرة الدينية معناها أنه لا يمكن لعقل اليوم أن يتكلم عن الأديان في المدارس الثانوية أو في المدارس الابتدائية وحتى طبعا التعليم العالي في الجامعات إلا إذا وصل العقل إلى ما نسميه الموقف ··· أقوله بالفرنسية (جُّىكخفٌ) · 4 - اللاهوت: أعنى بذلك علم يستمد أشياء من الكتب المؤسسة للأديان يستخرج أشياء من تلك الكتب ويركبها تركيبا حتى تصبح بنية مغلقة من المفهومات وبنية مغلقة من القوانين وبنية مغلقة من الحرام والحلال·· محمد أركون وحوار الديانات: خلال المسيرة الفلسفية لمجمد أركون لم يقص من منظومته الديانات التوحيدية· بل عمل على ترقية الحوار بين هذه الديانات من أجل التقارب الثقافي بينها ومن أجل بلوغ هذا الهدف شكّل مع الأب كلود جيفري وفرانسواز سميث فلورنتان وجان لامبير ''مجموعة باريس'' داخل الجماعة الأوسع للبحث الإسلامي - المسيحي التي كانت قد أسست من قبل الأب ر· كاسبار· وضمن هذه المجموعة بالذات كان يحاول زحزحة مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي ''الأرثوذكسي'' والخطاب الطائفي التبجيلي الذي يستبعد ''الآخرين'' من نعمة النجاة في الدار الآخرة لكي يحتكرها لجماعته فقط· وقد حدد زحزحة مسألة الوحي هذه من تلك النظرة التقليدية إلى أخرى تنويرية أخضعها إلى التحليل الألسني والسيميولوجي· المجال الجغرافي للعقل الإسلامي: يحدّد المجال الجغرافي للعقل للإسلامي في فضاء البحر المتوسط، هذا الفضاء الذي ليس جغرافيا طبيعية فقط بل كفكر وثقافة يمتدّ من المغرب - المحيط الأطلسي ويشمل جميع ما يسمى أوروبا ويمتد إلى إيران· هذا هو الفضاء الجغرافي التاريخي الذي يمكن أن يوصف بالفضاء المتوسطي لماذا؟ لأن هناك ركيزتان أساسيتان في تكوين هذا الفكر في هذا الإطار: ركيزة الأديان التوحيدية، هذه الركيزة الهامة ويعود تاريخها إلى عهد مدنية الشمال بالقرب من بغداد· ولنا أن نتصور هذا الامتداد الجغرافي بكل حمولاته الثقافية والدينية ومدى أهمية الدور الذي لعبه في تشكيل العقل الإسلامي· اللغات: من الأشياء المهمة التي عابها على مجتمعنا العربي الإسلامي هو جهله باللغات، التي يعتبرها ذاكرة الجماعات البشرية والذاكرة الدالة على الثقافة وعلى المدنية الخاصة بكل جماعة تتكلم لغة ما، ولذلك يجب علينا أن نحافظ على جميع اللغات اليوم لأننا إذا همَّشنا أو ألغينا لغة سنعيش في السرداب وخارج خارطة التاريخ· ومع الأسف - حسب قوله - كنا وما زلنا كل يوم نرى كيف تُلغى اللغات· نقد العقل الإسلامي: في هذا الباب ندع محمد أركون يتكلم بالرغم من أن آلاف التكفيريين حاولوا ويحاولون وسيحاولون طمس فلسفته التنويرية، لكن بدون جدوى· ''إن مشروعي في نقد العقل الإسلامي يتمايز عن كل ما عداه فيما يخص هذه النقطة الأخيرة· فأنا أهدف إلى نقده بطريقة تاريخية، وليس بطريقة تأملية، تجريدية سكولاستيكية· إن مشروعي هنا ينخرط إبستمولوجيا في العمق، بل وفي عمق العمق، ويختلف بالتالي عن كل مشاريع تاريخ الفكر التي لا تشمل هذه النقطة الأخيرة''· خلاصة: أخيرا نؤيد ما قاله المترجم والمفكر السوري هشام صالح، الذي يعود إليه الفضل في ترجمة فلسفة محمد أركون: ''هل كان بإمكان محمد أركون أن يكتب ما كتبه ويقول ما قاله لو أنه عاش في مجتمع من مجتمعاتنا التكفيرية والمؤسسة لتقديس الجهل؟!؟!''