في ديوانها الشعري الأول ''مرايا الجسد'' تحاول الشاعرة غيوم مسعودة لعريط أن تغريك وهي تمعن النظر، وتدقق في الاسم بدءا ''غيوم'' ثم في اللوحة التشكيلية والتي هي مرآة لما هو داخل الجسد، ليس فقط مما يتشكل فيه من ''أعضاء'' بل أيضا ما يتشكل فيه من تفاعلات ورغبات وصراعات، فلوحة الغلاف تريك الجسد كمرآة لحواس الإنسان ومشاعره·· ترى الجسد الأنثوي في تفاصيله الداخلية كعالم في ذاته·· ترى ما يغور في هذا الجسد من أحاسيس ومشاعر ورؤى وأفكار هي المضمون الذي تريدك بدءا منه الشاعرة، أن تدخل إلى النص الشعري، فاللوحة الخارجية هي البوابة لذلك، أما الداخل ففيه شبابيك القلب وأثاث العقل·· إذن، اللوحة هي المقدمة الأولى التي أرادتها الكاتبة أن تفتح بها، بل أن تدخل منها إلى عالمها الشعري، يلي قراءتك للوحة، قراءة ثانية، ليس هنا بالأحاسيس، وكما تريد منك الشاعرة من قراءتك للوحة، ثم الإسم، والعنوان، أن تفعل بل أن تقرأ بعقلك وترسم بالمشهد، بالمتابعة بما فيها من باطنية تكشف عنها ''غيوم'' بل أيضا عليك أن تقرأ ذلك في الضوء، تحت شمس حارة، وفي ظلالها لا فرق·· وهنا الفصل الثاني منه تقرأ للكاتبة ما تبوح به كتابة، بعدما رسمت بمشاعرها ما ستكونه عنها في اللوحة الخارجية للكتاب·· يلي ذلك الفصل الثالث كخلاصة للفصلين الأولين، الصورة النصفية التي تضعها الشاعرة على الغلاف الأخير لديوانها، تضعها كبادرة تعارف مع القارئ بدءا، وكخاتمة تأمل وصمت، من ثم وكأنها تقول للقارئ ها أنذا هو الجسد·· الديوان·· وأنا أيضا مضمون ما قرأت وعليك ألا تخطئ النظر!! * * * تبدأ الشاعرة في مخاطبة نفسها، بل في التعريف بها ''في لحظة من زحام الحنين ''احتضنت جسدي'' إلى جسدي''· الاحتضانة تلك لم تكن إلا ''غفوة للروح'' و''صحوة للجسد'' وتستمر لتخاطب الرجل الذكوري، بل المجتمع ''قال: ادخلي في معطفي ''قلت ادخل في جيبي'' قال ''ادخلي في رحمتي'''' لم ينته الكلام بل فتحت الشاعرة ممرات شتى لغور عقل ذاك الغازي الذي يخاطبها باسم عادات وتقاليد مضت، مؤولا ما يريده باستحضار أفكار دينية كي تخدم أهداف هيمنته الذكورية، ولكنها تبقى في خطابها العنصر الفاعل وهو المفعول به، هي الإرادة، العقل وهو الغريزة، لكن اللعب بالعواطف هو ذاته بعض من عدة الشاعرة اللغوية، ولغة الشاعرة ليست للمشاغبة فقط، بل لإعطاء درس من فكر جديد لمن يريدون استيلاب حريتها· إنها لغة التمرد، الرفض لمن يريد استباحة الجسد بل اغتصابه، وهي تنتقد الصيغ التي يباع فيها الجسد ويشترى· النظر مفتاح للشهية، النظر مشاع، بينما الكلام مفتاح لاكتشاف النوايا·· والمستباح ما هو إلا ''من بقايا ورود الأنبياء إلى حيث تنمو النجوم '' في حديقة الغرباء''·· إذن النظر فالكلام لم يكونا مع هذا الغازي إلا المدخل للغربة عن هذا الغريب·· والشاعرة لا تريد أن تتغرب عن ذاتها، بل تريد أن تتعرّف إليها، والتعرّف سيكون من خلال رؤية الآخر وثقافته ولغته أيضا، فالآخر هو المرآة التي يرى الإنسان فيها ذاته، بما فيها من سلبيات ومن إيجابيات·· وكأن الكلام عاجز عما يقوله الجسد، ''ونمت في بحر الغمام دهرا ''وكبرت على ركبة الشمس طفلا''''· رفضا للعبودية، وهل من شك في أن رسالتها هي كذلك، رسالتها لمن يريد استباحتها·· هكذا تعبر ''غيوم'' عما يختلجها، عن شعورها الدفين بأنها حرة ولن تكون كما يريدها الغازي عبدا لشهواته··· * * * ''''أنصت لنزيف المطر في حذائي'' (··) فجسدي يشتهي الفراغ '' وذراعي لا تحب دفء معطف قديم '' لا يكف عن مؤازرتي بالوصاية ''''·· بماء اللغة تلك التي تنزف شوقا وحنينا لإنسان جديد، لعالم دون شرور، لمطر لا يقيد أحذيتنا عن الحركة نحو الحرية، نحو النور الأزلي الذي من أجله سار المحبون ولم يصلوا· الشاعرة وكأنها تسعى لتقييم الثقافات الاجتماعية السائدة وكيف تعامل فيها ومن خلالها النساء· هي تنطلق من ثقافة مغايرة لثقافة الاستباحة والاستلاب، هي لن تكون ممرا ومقرا مؤقتا لشهوات ذاك الغازي، بل تريد أن ''تكتب هذا الوطن وشما في الروح '' حبي لك شديد مثل وجع '' تختصر جسدي دورة بعد دورة '' ماء ورحيلا '' وزيتونا حزينا ''''· فيما تبديه ''غيوم'' من بواطن لا نرى فقط لغة الشمس، لغة الحرية، وإنما الفجر الذي يبزغ يبشر بها، ومن نسماته التي تستنشقها الشاعرة تخاطب الإنسان الذي دخل إليها طواعية، تخاطبه كوطن يسكنها وليس كوطن يساهم في استلاب حريتها، هذا الاستلاب الذي يجعلها تكره جسدها، بل تراه كمنفى غريب عنها·· هي تريد من حبيبها أن يعلن عن حبه، أن يتنفس حبه لا شهواته فقط·· أيضا تخاطب الضمير الإنساني، هكذا تفعل حينما تشير إلى رمزية الزيتون الحزين، زيتونة القدس التي لم تعرفها الشاعرة إلا حزينة كحزنها من هذا الغازي، الذي أراد استباحة جسدها فرفضته، تخاطب فيما تخاطب تلك الدولة ''الصهيونية'' التي جعلت من زيتون القدس زيتونا غريبا عن أهله، حزينا لفقدانهم لديارهم، أليس الاغتصاب، الجريمة هو ذاته هناك، وكأن الشاعرة تدعو لحياة جديدة ولمواسم زيتون تتجدد فيها حقول الإيمان بيسوع، يسوع الباقي في تلك الأمكنة التي هجرت العدالة وتركها الدهر منذ انتقلت النازية من ألمانيا والغرب إلى فلسطين، الشرق·· ''غيوم'' التي نتابع في كتاباتها ما لا تراه العين، نتابع ما تلمسه عواطفنا، التي قتلتها الأنانية والأمية والرغبات، ''غيوم'' تبوح ''وأعلن أن هذا هو إسمي العربي '' جسدي ونهري '' وشهوة روحي'' فأنت يا أنت من أنت '' لتشبه ماء اللغة ''''، فإليه إليه ''أهديه تيهي'' لأنه فوق شظايا المرأة الغيم '' أن تحفر هذا الجسد '' يصبح الجسد'' من لوعة الجسد'' أن تسقط حزني الأولي '' ينكشف بعدها'' الحزن الحزن '' وبعد الحزن الحزن '' في (···) هذا الخواء '' روعة الخواء '' مطر الخواء''''· هي تشتهي الفراغ، لا تحب معطفا ارتدته أجيال مضت، أجيال كانت لها حياتها·· أجيال تستحضرها الشاعرة كي تجعل منها وصية على الحياة التي نعيشها·· وهل في طريق التيه مثل هذا؟ أو أن الجسد الذي تحفر فيه الشاعرة لتزرع، لم يأته المطر؟ فيبست سنابله قبل النضوج؟ إنه الجسد، وذاك السهل كلاهما أجهضا·· ''من لوعة الجسد''·· وأنت أمام هذا المشهد، الإجهاض، لن تسقط حزني الأول، الحزن المحفور في كل ثلم زرعته ولم يأته المطر لم تنضج السنبلة ''لينكشف الحزن، ليأتي الخواء، مطر الخواء''· هي ''غيوم'' الشاعرة، وقد أتت دون أن نرصد هذا الرعد، دون أن نرى قوس قزح التي بشرت به·· والديوان ذاته منه تتفتح عيون القلب على مشاهد أخرى·· و''غيوم'' محملة بالغيوم، وبرعد ومطر غزير، ''غيوم'' ليست شاعرة فقط، بل هي الطفلة التي لم تكتمل أنوثتها فالآخر المرآة لم يعرف كيف يتعامل مع هذه الأنوثة، مع هذه الأرض الخصبة·· وستكتمل تلك الأنوثة بشريك يقرأ لوحة المشاعر، شريك في رؤية الغيوم التي ستخصب ليس فقط في عقل ذاك الغازي الذي لم يحفظ الدرس·· الذي ترك الأرض الخصبة، بل وأيضا في عقول كل الغازين، وهم كثر·· هي تعلن في كل كلمة موقفا لها، تريد محاربة الخنوع والاستسلام لشهوات ذكورية أحادية الجانب· * * * في شعرها تنعكس كل تلك التحولات الجديدة والجذرية في نظرة المرأة إلى المجتمع والإنسان، نقرأ في لوحة الشعر بعضا من تلك التحولات ''لو أنك لم تسافر'' فهذه العروش مقابر'' هذه الأسواق تبيح دمي'' وطني الرائع '' وطني الضائع '' وطني يحملني وأحمله نعشا على قلبي''··· و''كأن الكون قد سافر وقد غفا''· يا لهذه اللوحات التي ترسم بالقلم، تعبر عنها الكاتبة بمشاعرها وقلبها الذي يرحم ولا ينسى، يمحو ويتذكر·· إنه الشعر الذي يأتي رذاذه خفيفا وكأنه يستحضر شتاءات الربيع، وقساوة كانون ودفء الصيف وعري الخريف··· فالشاعرة التي تنتقل، تنقلنا من حالة السفر، الفاجعة إلى هذا الممر المظلم الذي دشنته عروشا وقد ماتت رحمتها على شعوبها· تلك العروش التي تعرض أجساد مواطنيها رخيصة في أسواق العبيد، وهجرة أدمغتها، التي تجاوزت المليون، في سوق، بل أسواق ليست لنا فيها منفعة· تابعوا هذا الوطن، الرائع، الوطن الذي ولدت فيه ''غيوم''، الوطن القارة، الوطن الذي تبحث فيه عن هجرة ''إلى كون قد سافر ثم غفا'' إنه رذاذات الشعر، مأساة كونية، رذاذات تحمل محبة القلب وحنين الروح، وتطلعات عين على مشهد ''وطن ضائع '' وطن يحملني أحمله '' نعشا على قلبي'''' إنه تداعيات الحياة اليومية، تلك القاتلة للإحساس، للمشاعر لكل ما يعطي ليوميات الإنسان معناها· وهي في شعرها، بل في واقعها تبحث عن الأمل، فلا تجد إلا الخيبة وصولا لليأس ''وأنا لا زلت أفتش عن جسدي '' وكان وجهك شراعا ممزقا في الثلج والضباب، وكان جسدي قاربا ممزقا في بحر ميت'' ''·· إنها الألوان في سياسات الحياة، وقد رسمتها ''غيوم'' شعرا، رسمتها في قلم يبكي، قلم مجروح، قلم يصرخ، قلم ليست له مرجعية إلا مرجعية الموت والهجرة والسجن··· تلك هي بعض من أيقونات ''غيوم'' المخبأة في ديوانها ''مرايا الجسد''·· وتلك هي بعض من سنابلها التي نمت لتطعم العقول الجائعة إلى الحرية تقول: ''وفي مدينة القبائل '' رأيت النجمة والقمر '' فوق قمة الجبل '' يكابدان الحب '' ويمنعان الوصل '' وبينها مسافة صغيرة '' وللنجمة ضوء القمر '' وللقمر ضوء نجمة '' وأسرار بحر '''' لتنهي دورها بما يحاكي الروح: ''أفرغتك في جسدي '' أصواتا ولهيبا '' وكلما قلت أمحوك مني '' وجدتني قتيلة عند بابك ''''··· ''فأنا يا أنت '' جئت إلى التراب زهرة ندية ''جئت سمكة '' وبموجة البحر الذي امتد بين أصابعي '' محوت الرواية '' وعانقت الجسد''''· هذا الشعر·· إنه يشبه مرايا جسد الشاعرة، والصورة الفوتوغرافية على خلفية الديوان مرآة للرواية الشعر - التي بدأت ولم تنته·