لقد كان لهيباشيا (270- 415 م) مكانة رفيعة بالإسكندرية التي قضت فترة التلمذة فيها، كما جاء في دائرة المعارف البريطانية، فهي فيلسوفة مصرية وعالمة في الرياضيات، وذات قدرات عالية، والثابت أنها قد تعلمت على نفقة الدولة وتم تعيينها سنة 400 م بالمتحف، وكانت في الخامسة والعشرين من عمرها كما كانت حكومة الإسكندرية مسيحية وهيباشيا لا تزال على ديانة اليونان، ويرى بعض المؤرخين أن التعيينات في المتحف تتم بأمر من الامبراطور أو نوابه ولتفوقها تم تعيينها وكانت من علماء المتحف “كالراتب السكن المكانة" وفي هذه السن الصغيرة كانت هيباشيا تلقي محاضراتها في المتحف وقد كان الطلبة يحتشدون أفواجا اليها من كل مكان وكانت الخطابات توجه إليها باسم الربة أو الفيلسوفة. وعندما كانت تقوم بشرح مذهب أفلاطون أو أرسطو وكانت القاعة التي تحاضر فيها مليئة بأثرياء الإسكندرية وأكابرها وبحثت في مواضيع كثيرة منها: من أنا؟ وإلى أين مصيري؟ وما طبيعة الخير والشر؟ وما طبيعة الإله؟ وعرفت هيباشيا بجمالها الأسطوري وعزفت عن الزواج وتفرغت للفكر وتعرضت لبعض المضايقات من طلاب تقدموا للزواج منها، حيث ظل أحد الطلاب يطاردها بعد انتقائها من دروسها ولكنها لقنت هذا الشاب الوسيم وزير النساء درسا، حيث قذفته بفوطة مستعملة وصاحت في وجهه “إن الاستمتاع بالجنس هو هدفك أيها الأحمق لا الاستمتاع بالفلسفة"، ويروي بعض المؤرخين أنها حاولت علاج الانفعالات الطاغية عند الشباب بمناهج الفلسفة وتعاليمها غير أن زير النساء لم يرتدع فأخذت منديلا كانت قد استعملته وقذفت به في وجه وهي تقول: “هذا ما تحب أيها الشاب الأحمق"، وهو ليس شيئا جميلا، ذلك أن الأفلاطونيين وهي منهم يعتقدون أن الخير والحكمة والفضيلة وغيرها تحمل في داخلها قيمتها، ولهذا فإن الناس يرغبون فيها لذاتها، ولقد كانت هيباشيا تدرس الفكرة الحقة عن الحب الأفلاطوني وتمارسها واستطاعت أن تصل بواحد من طلاب الفلسفة في الإسكندرية إلى مرحلة يشعر فيها كالخجل من نفسه، وكانت تلك طريقة أفضل لعلاجه أيضا، ويروي ول ديورانت قصة أخرى فيها الكثير من المغالاة لسلوك ناتج من العذراء الفاضلة، ومضمون القصة أن شابا كان يضايقها باستمرار حتى نفذ صبرها فما كان منها إلا أن رفعت ثيابها وقالت له: “إن الذي تحبه هو هذا الذي يرمز إلى التناسل وهو ليس شيئا جميلا قط"، وأكبر الظن أن هذه القصة مختلقة بدليل أن ول ديورانت يشكك فيها ويقول “لعل أعداءها هم مخترعوها"، وقال المؤرخون عنها أنها شخصية محترمة على خلق رفيع. إن الثابت عند هيباشيا، أنها رفضت الزواج من كل من تقدم طالبا أن يقترن بها وظلت طوال عمرها، وكانت قوية الشخصية، تفرض احترامها على الجميع ويصفها ادوارد جيبون (1737- 1794) وهو أحد المؤرخين وأعظمهم في عصره قائلا “رغم أن هذه العذراء المتواضعة بارعة الجمال ناضجة الحكمة رفضت عشاقها وعلمت تلاميذها دروسا ولهذا تلهف أشهر الناس مقاما وجدارة على زيارة تلك الفيلسوفة". ولقد كان المسيحيون في عهدها ينظرون إليها على أنها تجسيد للعلم والفلسفة والثقافة بصفة عامة. وكانت هيباشيا مرتبطة بعلاقة صداقة وطيدة مع حاكم المدينة الوثني أروستيس الذي كان يستشيرها في كثير من المسائل الفلسفية ونشب خلاف بين الحاكم وكبير الأساقفة وقد حملوها مسؤولية هذه الخلافات وأضحت النقطة المحورية في التوترات وأمور الشغب التي وقعت بين المسيحيين وأعدائهم والتي اجتاحت مدينة الإسكندرية أكثر من مرة ولقد كانت هيباشيا تعيش للفكر وحده، بعد أن رفضت الزواج وترهبنت في محراب الفلسفة بطريقة تختلف كثيرا عن الرهبان، فقد عاشت حياة حقيقية تستهدف البحث عن الحقيقة ومن شدة حبها للفلسفة كانت تقف في الشارع وتشرح لكل من يسألها عن النقاط الصعبة في مؤلفات أفلاطون أو أرسطو وتلهف الناس لسماع هذه العذراء المتواضعة بارعة الجمال، كما سعى القوم في المدينة لزيارة تلك الفيلسوفة الشابة. وفي يوم اعترض مجموعة من الرهبان طريق عربة هيباشيا بايعاز من كبيرهم كيرلس، فأوقفوها وأنزلوا الفيلسوفة الشابة الجميلة ثم جروها إلى كنيسة قيصرون، حيث تقدمت مجموعة من الرهبان وقاموا بنزع ثيابها حتى تجردت من ملابسها لتصبح عارية كما والدتها أمها، إنه مشهد بالغ الغرابة يقوم به النساك الأطهار، حيث قاموا بذبحها وهي عارية تماما ثم عكف الرهبان -أتقياء القلب- على تقطيع جسدها إلى أشلاء مستمتعين بما يفعلون ثم قذفوها في النار، كما روى راسل وول ديورانت، أيمكن أن يكون هؤلاء الوحوش من تلامذة المسيح؟ لقد ذبحوا فيلسوفة لا ذنب لها سوى أنها مارست الفكر الفلسفي وأرادت خيرا بالإنسان. هناك معلومات عن الأنشطة التعليمية والثقافية التي قامت بها هيباشيا، بما في ذلك تلامذتها المشهورين، فلقد كانت تحاضر في الهندسة والرياضيات وكذلك يحكى أنها كانت عالمة فلك ممتازة مثل والدها. كما روى لنا هسيوخيوس عالم النحو الإسكندراني، وقد سماها سينسيوس الشارحة الحقة للفلسفة الحقة “كما يذكر سينسيوس في خطاباته أنه كان لهيباشيا الفضل في تثقيفه، فقد درست له مع شروح وافية لمؤلفات أفلاطون وأرسطو، كما درس على يدها ميتافزيقا الأفلاطونية المحدثة وأسرارها فضلا عن بعض العلوم الطبيعية وعلم الفلك الميكانيكي والرياضيات، وبالتالي فقد كانت شخصية معروفة تماما وشهرتها فاقت الوصف وأضحت هذه المرأة متربعة على قمة الأسرار الفلسفية. كما عينت هيباشيا رئيسة للمدرسة الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية ولقد درست مؤلفات عملاقا الفلسفة الوثنيين أفلاطون وأرسطو وقامت بتدريس فلسفة فيتاغورث وزينوفان والمدرسة الكلبية والمدرسة الرواقية أيضا، وشروحا عن فلسفة أفلوطين ولقد اهتمت بالميتافزيقا والابستمولوجيا أكثر من اهتمامها بالفلسفة السياسية والأخلاقية، كما درست كتاب ديوفنطس “علم الحساب وبالتالي فثقافتها الواسعة قد ساعدتها على تشكيل الأساس الطبيعي لها"، أما عن الشروح التي قدمتها فقد قامت بتأليف ثلاثة كتب هامة وهي: شرح كتاب ديوفونطوس السكندري المسمى علم الحساب أو الأرتمطيقا، كما كان يسميه العرب، شرح كتاب بطليموس المجموع الرياضي أو المركب الرياضي وهو العنوان الأصلي المعروف في التراث العربي باسم المجسطي أي المركب العظيم magiste syntaxis وشروح على كتاب قطوع المخروط لأبولونيوس البرجي conic sections، وعلى الرغم من ان ويداس يروي أن الكتب الثلاثة قد فقدت، فإن ماري لين ويث كشفت عن وجود كتابين اتجهت هيباشيا إلى شرح كتاب ديفونطس، لقد كان ديفونطس السكندري 250 م عالم الرياضيات مرموقا صاحب كتاب علم الحساب، فقد كانت هيباشيا أكبر شارحة لهذا الكتاب في العالم القديم، ونتج عن ذلك -أي الشروح التي قدمتها- البذور الأولى التي أثمرت علم الجبر ثم اتجهت إلى شرح كتاب بطليموس: المجموع الرياضي syntaxis mathematica كان بطليموس أشهر العلماء في هذه الفترة بعد أرسطو واستطاعت هيباشيا تنقيح علم الفلك لبطليموس كما يروي فابريقوس وغيرهم وكانت الجداول الفلكية من ابداعات هيباشيا وتقع شروحها على الكتاب الثالث من كتاب بطليموس أو المجموع الرياضي في الصفحات من 807 إلى 942 قام بشرحها الأب روم. “ثم قامت هيباشيا بشروح على كتاب القطوع المخروطية conic section وألفت كتابا عنوانه شروح على كتاب القطوع المخروطية لأبولونيوس البرجي، كما ينسب المؤرخون اختراعين لها، الأول البلانسفير وهي خريطة ذات ثلاثة أبعاد لنصف الكرة السماوية أما الاختراع الثاني فيتمثل في جهاز لقياس الوزن النوعي للسوائل وهو نوع من الهيدرومتر لمعرفة الأوزان المختلفة للسوائل التي يستخدمها المرضى بوجه خاص، هذه هي الفيلسوفة البارزة وشهيدة العلم درست الفلسفة والعلم وتمكنت من الفلسفة، ولا سيما عبر عمالقة الفكر اليوناني زينوفان وفيتاغورس وأفلاطون وأرسطو ثم أفلوطين والأفلاطونية الجديدة وكانت عقلا ناضجا حتى قبل أن تصل إلى سن الثلاثين وعاشت في بيئة كانت تستبعد النساء وعينت في منصب لم تصل إليه امرأة قط: رئيسة للمدرسة الأفلاطونية الجديدة، وعرفت في عصرها بالفيلسوفة العظيمة، ويقول راسل “إنه بعد مقتل هيباشيا لم يعكر الفلاسفة صفوة الاسكندرية أبدا". وكتب الأديب الفرنسي “جيل مناج" قصيدة قصيرة: لابد لكل من يشاهد ويتأمل ويتأمل بيتك الطاهر الخالي تماما من كل زخرفة أو زينة أن ينشغل بأمر الثقافة حقا لقد انشغلت أنت بالسماء هيباشيا أيتها المرأة الحكيمة لغتك عذبة ونجمك متألق في سماء الحكمة. واستغل الروائي الانجليزي تشارلز كنجزلي (1819 - 1876) أحداث حياتها في رواية اسمها هيباشيا، حيث صور مدينة الاسكندرية في بداية القرن الخامس الميلادي وتزايد الاهتمام بهيباشيا مع نشأة الحركة النسائية والبحث المتزايد عن الجهود النسائية في الماضي، وظهرت جريدة نسائية تحمل اسم هيباشيا تكريما للجدة الأولى وفي النهاية نقول مع جورج سارطون إن هذه المرأة كان لها شرف مزدوج، أول من اشتغل بالرياضيات من النساء وهي من أوائل الذين استشهدوا في سبيل العلم.