نعيش في عالم اختلطت فيه المفاهيم وانقلبت المعايير رأسا على عقب، فتشوشت العقول وأصبحت لا تستطيع التمييز بين ما هو جميل وما هو قبيح وبين الخير والشر في الحياة. بل ساد الاعتقاد لدى الكثيرين أن التعقل جبن والاندفاع والتهور والعنف والقتل والتدمير شجاعة وفحولة وشهامة، وتلوثت النفوس بكل أشكال الإحباط والتشاؤم واليأس من كل شيء في الحياة. فانتشرت أنواع من الأمراض النفسية والعقلية التي لم يسبق وأن تفشت في مجتمعاتنا بتلك الحدة منذ زمن منظور، حيث أصبح ينظر للانتحار والانتقام من الذات والآخر على أنه عملا بطوليا وسلوكا حضاريا ووسيلة للتغيير الاجتماعي وتقربا إلى الله. كما أصبحنا في زمان يرى فيه كل واحد منا الآخر الذي يختلف معه في اللون أو العرق أو المنطقة الجغرافية أو في القناعات الفكرية أو السياسية أو في الدين أو في المذهب أو في طريقة التفكير أو اللباس أو حتى في طبيعة إدارة الحياة وفلسفتها، بل حتى في طريقة التصرف اتجاه أبسط ضروريات الحياة- على أنه عدوا ومن المغضوب عليهم، الذين يجب إقصاءهم وتهميشهم أو التشهير بهم بأقبح الأوصاف والعمل على التخلص منهم والتنكيل بهم بكل الوسائل المادية منها والمعنوية. إننا فعلا نعيش في زمان يريد أن يشعرنا بالاغتراب عن ذواتنا وبالاغتراب عن انتمائنا وبالاغتراب عن هويتنا، وبالاغتراب عن كل ما هو جميل وطيب في الحياة. هل ضاقت بنا الدنيا فعلا؟ وهل ضاقت وقست قلوبنا إلى درجة الإفلاس الوجداني حتى أصبحنا لا نتذوق جمال الحياة، ولا نشعر بالآخر ولا نطيقه، ولا نستطيع تقبله ولا الاعتراف بوجوده ككيان مستقل ومتميز عنا في الهوية والنظرة والتفكير والمعتقد وفلسفة الحياة؟ هل وصلت بنا شدة قساوة القلوب وضيق النفوس إلى أن سيطرت روح الانتقام والتنكيل بالآخر لإشباع نزوة السادية والتلذذ بعذاب وألم الآخرين؟ وهل أوصلتنا قباحة المشاهد والوقائع المحزنة التي تسيطر على يوميات مجتمعاتنا وامتنا العربية والإسلامية حتى فقدنا القدرة على تذوق طعم الكلام الحسن والمعاملة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن؟ هل أخلت هذه المشاهد المتراكمة والمستفزة بعقولنا إلى درجة تشميتنا وتقبيحنا لكل ما يرفع من قيمة الإنسان في إنسانيته فجعلنا سعة الصدر والتسامح مع الآخر جُرما وجُبنا وضعفا وتقليلا من الرجولة والفحولة؟ وهل أدخلتنا شدة تسارع الأحداث المؤلمة وتراكمها وتعقدها في محيطنا الاجتماعي وتطوراتها العالمية والإقليمية إلى درجة الإفلاس والغيبوبة الفكرية، فغابت عنا القدرة على التمييز والتدبر، وتجمدت وظائفنا العقلية فأصبحنا لا نستطيع التفكير ولا التأمل في مصالحنا وأمننا وفي كل ما هو خير وايجابي ويصنع السعادة في حياتنا؟ بل جعلتنا تلك الغيبوبة ننساق وراء الغوغائيون والغثائيون في تفنن الاتهامات لكل من يشغل عقله بالتفكير في الخير والجمال ونشر المحبة والتسامح والوحدة والتآلف والتآزر واستعمال العقل والمنطق ولغة الحوار في إدارة اختلافاتنا بأنه معتوه ومختل ومريض يعيش في عالم الخيال والمثل. بل وصل البعض من المتعالمين إلى حد الإفتاء بأن هذا النوع من الناس ليس لهم الحق في الحياة. أي دين وأي عقل ينادي ويرخص بذلك؟ وهل أُصبنَا بالجنون عندما مجدنا وبجلنا أسلوب الإقناع بلغة العضلات والقتل والتدمير والتفجير لكل مقومات الحياة ولكل ما يرمز إلى عناصر الحضارة، حتى استولت على استراتيجيات تفكيرنا وأصبحت خيارنا الوحيد في معالجة اختلافاتنا الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية في تنافسنا حول كيفية البناء والتشييد، فقبحنا وشمتنا أسلوب الإقناع بلغة العقل والفكر والحجة البرهان والحوار رغم أنها ميزة للإنسان عن الحيوان؟ فانطلاقا من تفشي “أنفلونزا الكراهية" في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية في كل المستويات الأفقية والعمودية والتي حملتها وشحنتها رياح الإعلام والمعلوماتية المتنوعة في عالمنا المعاصر، وساعدها ميلنا وقابليتنا للتلاعب والانقياد، إضافة إلى تركيبتنا النفسية ومزاجنا المتميز بالاندفاعية إلى التشفي والانتقام من الآخر. ونظرا لانتشار سرطان الفتن المذهبية والفكرية والسياسية والقطرية بين أبناء البلد الواحد في عالمنا العربي والإسلامي والتي نتجت عن ضعف جهاز المناعة النفسية والفكرية والسياسية والثقافية غزتها بفيروس الفوضى المدمرة ولا نقول الخلاقة والحروب الناعمة ومشاريع “سايسك بيكو" القرن الواحد والعشرين. ونتيجة لوباء العنف والإجرام والقتل التدمير، الذي عمّ جل دول العالم العربي والإسلامي في العشرين سنة الأخيرة حتى أصبحت السمة المميزة لها، والتي غذتها ثقافة الانتقام واللا تسامح، وحرضتنا عليه كل الجهات والأمم مستهدفة وجودنا ككيان وأمة وحضارة وثقافة لها امتداد وجذور في تاريخ البشرية، لتحقيق عمليات الانتحار الجماعي. ونتيجة لكل ذلك، نجد أنفسنا، اليوم، في أمس الحاجة إلى عمل بيداغوجي تربوي وقائي استباقي، يرتكز على عمليات التطعيم والتلقيح النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي لأبنائنا وللأجيال الناشئة بلقاحات المحبة والتسامح وثقافة الحوار لتحقيق أعلى مستويات الأمن النفسي والاجتماعي والقومي لمجتمعاتنا وأمتنا، وبالتالي القدرة على التعايش بتنوعاتنا باحترام وتقدير. وفي نفس الوقت لتحصين أجيالنا الناشئة ومجتمعاتنا من كل الزلازل والدمار الذي يراد برمجته لنا لنهدم بيوتنا بأيدينا وأيدي المسلمين أنفسهم. فقد جاء في مقدمة اليونسكو أنه: “لما كانت الحرب تنشأ في عقول الناس ففي عقولهم أيضا يجب أن تبنى معاقل السلام". ألا يحق لنا العيش في أمن وسلام بالمحبة والتسامح والحوار كسائر الأمم المتقدمة؟ وكيف نلقح ونطعم أبناءنا والأجيال الناشئة ونحصنهم من كل الأوبئة والأمراض النفسية الاجتماعية التي تتهددهم بفعل تصوراتنا واعتقاداتنا وسلوكاتنا المدمرة، إضافة إلى مفعول الحروب النفسية والبرمجة العقلية التي تمارس علينا؟ إن طرق مواجهة هذا الواقع المؤلم والتصدي للحرب النفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بالأهداف والنتائج التي تسعى إلى تحقيقها وذلك بإبطال مفعولها أو تحويل اتجاهها نحو الجهة المعادية (الحرب المضادة) عن طريق اعتماد إستراتيجية التحصين لأفراد المجتمع من جميع الجوانب مثل: - التحصين النفسي بزرع روح الثقة في الذات، الاعتزاز بالنفس، والاعتماد عليها مع تنمية روح التحدي والندية في التعامل مع الآخر وتنمية روح المسؤولية والمحبة لدى أفراد المجتمع حتى لا يكونوا إمعة ينساقون وينقادون وراء كل الدعوات والنعرات بسهولة. التحصين الفكري والعقائدي،عن طريق تقوية مفاهيم عقيدة المجتمع ومبادئه النبيلة وتصوراته المنطقية المبنية على التفكير العلمي في شؤون الكون والنفس والاجتماع والسياسة مع محاربة الخرافات والاعتقادات البالية المثبطة للعزائم والمستسلمة للأوهام ومحاربة كل أشكال التطرف والتعصب والاحتكار للحياة. - التحصين الاجتماعي بتعزيز روح الانتماء للوطن والأمة والاعتزاز بذلك عن طريق تدعيم مفاهيم التعاون والتكافل والاتحاد والمساواة والعدالة بين أبناء المجتمع الواحد، ونتعجب في هذا الأمر كيف أن أوروبا مهد القوميات والعرقيات ،عناصر الاختلاف فيها أكثر من عناصر الاتفاق استطاعت أن تؤسس اتحادا وتكتلا سياسيا واقتصاديا وتعمل على تأسيس وحدة ثقافية وفكرية واجتماعية، ونحن العرب والمسلمون نملك كل عناصر الاتفاق والوحدة الفكرية والدينية لم نستطع أن نحصن حتى وحدتنا الداخلية. 2 تقوية جهاز المناعة السياسية والإعلامية والاقتصادية عن طريق: أ تقوية الثقة بين أفراد المجتمع أفقيا وعموديا بين الحكام والمحكومين (جهاز المناعة السياسية) من خلال تأسيس تقاليد التسيير والتداول السلمي على السلطة وترسيخ تقاليد النقد البناء والمحاسبة العادلة لكل مسؤول مع ترقية حقوق الإنسان واحترامها من خلال تعزيز مفهوم دولة القانون حتى لا تستغل الثغرات والهفوات في الحملات الدعائية والضغوط السياسية والاقتصادية، كما هو في الكثير من الدول النامية. ب تعزيز وتدعيم قيم الحوار ومبدأ المشاركة الجماعية في معالجة مختلف القضايا العالقة داخل مجتمعاتنا بدل الانفرادية والتسلط وسيطرة لغة العنف والمواجهة في حل خلافاتنا. ج تدعيم فضاءات حرية التعبير لتمكين أفراد المجتمع من الشعور بالعزة والكرامة وروح المسؤولية . د تعزيز حرية الإعلام وتعدده لنشر الحقائق والمعلومات بشفافية ومصداقية لسد الطريق أمام الدعايات والإشاعات المغرضة. ه توفير فرص العمل وتدعيم المستوى المعيشي لأفراد المجتمع حتى لا تكون البطالة والفقر مرتعا وأرضا خصبة لسياسات التمسيح والجوسسة الأجنبية للتلاعب بأمننا الاجتماعي والاقتصادي وغيرها. هذه الإجراءات وغيرها، من تلك التي تساهم في تقوية جهاز مناعة المجتمع، فهذا التحصين يعتبر صمام أمان لقوة المجتمع والدولة. لأنه إذا كان الأطفال يحتاجون إلى تقوية جهاز مناعتهم البيولوجية منذ الصغر عن طريق حقنهم بلقاحات تساعدهم على مقاومة مختلف الأمراض والأوبة، فإن أفراد المجتمع يحتاجون إلى اللقاحات السالفة الذكر لتقوية جهاز مناعتهم النفسية من كل الاختراقات والاهتزازات، (تأسيس نظام واقٍ من الصدمات النفسية Air bag- psychologique). ونستخلص أن الحروب النفسية تقاوم وفق المعادلة الآتية: المناعة النفسية + المناعة الفكرية، العقائدية والسياسية + المناعة الاقتصادية + المناعة العلمية والتكنولوجية = فرد ومجتمع محصنين من كل الصواريخ والقنابل النفسية المدمرة والذي يمكن تسميته باللغة الفرنسية Air bag psychosocial وبذلك نكون أو لا نكون. ندائي هذا إلى كل المثقفين والمفكرين والعلماء والأئمة والصحفيين والمتنورين ليساهموا بفعالية أدبيا وفنيا ودراميا وإعلاميا وتربويا وسنمائيا في إعادة تشكيل الوعي العربي والإسلامي بما يليق بإرثه الحضاري والثقافي ودينه الذي قال عنه سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". قسم علم النفس جامعة سطيف