ظل السؤال الذي أرّق الفلاسفة المعاصرين هو: هل يمكن أن تشكل الصناعة الثقافية مرحلة حقيقية لتطوّر الفن والوعي به، وفي تجذر الفلسفة الجمالية في الخطاب الثقافي المعاصر؟ إلى أي مدى تمثل الثقافة الجماهيرية تجسيدا حقيقيا لفكرة دمقرطة المعرفة والفنون في المجتمعات المعاصرة؟ ثم ما دلالة الاقبال الجماهيري على الأشكال الفنية الجديدة هل يعبّر ذلك عن نهاية الفن الجاد على حساب انبثاق أشكال باهتة من الفنون المعاصرة؟ لا شيء أدعى إلى التأمّل في واقع الفن المعاصر من تفشي ظاهرة جديدة تلك التي تسمى ب “سوق الفن"، حتى أضحى الفن جزءا من منظومة التبادل التجاري، يخضع لما تخضع لها السلع الأخرى؛ إذ بتنا نسمع بكثير من الألفة بمصطلح “سوق الكتاب"، الذي صار سوقا للعرض والطلب، وصارت الكتب كما الأعمال الفنية الأخرى كالسينما والموسيقى تسحب بنسخ تفوق الملايين، ففي عالم الكتب برزت ظاهرة الكتاب الأكثر مبيعا (the Best-seller) وظاهرة الجوائز الأدبية أو شباك التذاكر لعروض الأفلام الكبرى، حيث أضحت قيمة العمل السينمائي مقترنة بالإيرادات المالية. لقد دخل الفن المعاصر مرحلة التسويق (the marketing) بفضل تطوّر التقنية ووسائل الاتصال ما مكنه من الانفتاح على الجماهير؛ فلم تعد الثقافة حكرا على نخبة صغيرة من رواد الفنون والآداب، بل صارت مشاعا للجماهير الكبيرة على اختلاف انتماءاتها الطبقية أو الثقافية أو السياسية أو العُمرية. ومن هنا فإن إشباع الحاجات الثقافية لكل هذه الأعداد يفرض على الثقافة أن تدخل مرحلة الصناعة والانتاج الكمي، وأن تستغل ثمار التكنولوجيا، لاسيما ما تعلّق بوسائل الاتصال الحديثة، لما بعد مرحلة التصنيع، أقصد مرحلة الترويج والإشهار والاستهلاك. وكما أنّ للصناعات الكبرى خطط عمل واستراتيجيات ورجال أعمال، فقد أضحى للصناعة الثقافية أيضا مؤسساتها ومختصوها ورجال أعمالها؛ فنحن نرى كيف أن الفن قد دخل المغامرة الاقتصادية، وصار مصدرا من مصادر الاستثمار المالي الذي يوفّر من جهة يد عاملة، ومن جهة أخرى يحقق الأرباح الطائلة، ولا غرو أن يتحوّل سوق الفن إلى فضاء لاحتكار الرأسمال الرمزي وتوظيفه لما يخدم مصالح مؤسسات وحكومات على النحو الذي صار معمولا به في دوائر القرار السياسي في الغرب؛ فقد انخرط الفن، وبشكل ملتبس ومريب، في معارك خفية ضد أنظمة أخرى، وأضحى وسيلة في يد رجال السياسة والمال لتحقيق مآربهم. ما يهمّنا في هذا السياق، هو عامل الجماهيرية باعتباره عاملا أساسيا في تحديد مفهوم الفن المعاصر وعلاقته المتشابكة مع المجتمع، وكيف ساهمت التقنية في تحديد هذه العلاقة. وسيكون المدخل الأساسي هو مصطلح (الصناعة الثقافية) الذي تم تداوله في الخطاب الفلسفي لفلاسفة مدرسة فرانكفورت، مع العلم أن هذا النقاش قد بدأ منذ ثلاثينيات القرن العشرين. 1 - الصناعة الثقافية: ورد هذا المصطلح في مقال كتبه كل من “ثيودور أدورنو" و«ماكس هوركهايمر"، بعنوان: “صناعة الثقافة: التنوير بوصفه خداعا جماهيريا" ويعني “تلك المنتوجات الثقافية التي ظهرت في سياق تطوّر وسائل الإعلام كالسينما، والصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، والدعاية، والأسطوانات التي عرفتها أمريكا. ولهذا، فإنّ الصناعة الثقافية تحيلنا في واقع الأمر إلى مرحلة متقدّمة عرفتها ما يسمى بالمجتمعات ما بعد الصناعية، وإلى تغيّر وضع الثقافة التقليدية التي أصبحت بعد ذلك متاحة نظريا لأكبر عدد ممكن من الناس". ترتبط الصناعة الثقافية بتحوّل في الوسيلة الثقافية، ودخول الثقافة طورا جديدا يتمثّل في سيطرة التقنية على عملية الإنتاج الثقافي والفني، في ظل واقع اجتماعي جديد يتسّم بازدياد الطلب الجماهيري على المنتوج الثقافي. فاختراع المطبعة، مثلا، كان تعبيرا عن الحاجة الاجتماعية المتنامية للكتاب، ولاكتساب المعارف وانتشار الآداب والفنون في نطاقات اجتماعية أوسع، كما أن تطور وسائل الاتصال والإعلام قد اعتبرها البعض بمثابة اتاحة الفرص للجميع لكي يتعلمّوا ويتثقفوا، بمحو الحدود الطبقية والاجتماعية، وقد يتعامل معها البعض بمثابة دمقرطة الثقافة لتصير ملكا جماهيريا. لكن ظل السؤال الذي أرّق الفلاسفة المعاصرين هو: هل يمكن أن تشكل الصناعة الثقافية مرحلة حقيقية لتطوّر الفن والوعي به، وفي تجذر الفلسفة الجمالية في الخطاب الثقافي المعاصر؟ إلى أي مدى تمثل الثقافة الجماهيرية تجسيدا حقيقيا لفكرة دمقرطة المعرفة والفنون في المجتمعات المعاصرة؟ ثم ما دلالة الاقبال الجماهيري على الأشكال الفنية الجديدة هل يعبّر ذلك عن نهاية الفن الجاد على حساب انبثاق أشكال باهتة من الفنون المعاصرة؟ 2 - العقلانية الأداتية أو انحراف العقل عن أحلام التنوير: طرح فلاسفة مدرسة فرانكفورت مسألة “التقنية" وتأثيرها على المجتمع المعاصر، خاصة على الحياة الثقافية؛ إذ لا يُقصد من هذا المفهوم ذلك التطوّر الذي طال وسائل الإنتاج الثقافي، ولا مجمل الأدوات وأجهزة الاتصال المتطورة، فهذه لا تشكل إلا تجل لها، بل هي، كما عرفه الفيلسوف الألماني “مارتن هايدغر"، “ميتافيزيقا، أي نمط من العلاقة بين الإنسان والوجود"، التي تبُرز صورة الإنسان المتفوّق القادر على التحكم في الطبيعة وتسخيرها والسيطرة عليها، بل تلك القوة التي صارت تتحكّم فيه، وتخضعه لقوانينها، ليتحول إلى مجرد خادم لها، فاقد للفعالية، غريب عن ذاته وعن الوعي بملكاته. لقد اقترنت التقنية بالانفجارات التكنولوجية والمعرفية التي جعلت طريق المعرفة مسلكا لبلوغ مملكة القوّة، فأضحى الذي يملكها هو صاحب القوة التي تمكنه من السيطرة والتحكم في الأفراد والمجتمعات. ولا يتجلى هذا فقط في مجالات المعارف العلمية والطبية والعسكرية، بل تتجسّد أيضا في العلوم الإنسانية، وتحديدا في النتاجات الثقافية كالآداب والفنون. وقد اعتبر بعض الفلاسفة هذه “التقنية" سليلة مجتمع رأسمالي متقدّم صناعيا، تتحكم فيه شركات اقتصادية وتجارية هدفها الوحيد هو تحقيق الأرباح ولو على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية، فالأهداف النبيلة والإنسانية لا تشكل محفزا لها ولا عاملا من العوامل المؤثرة في توجيه سياسات العمل، بل ما يهمها هو ما يحقّق الأرباح، ولذا استطاعت هذه المؤسسات أن تحتكر الأسواق التجارية، وتستغل ثمار التقنية لتكون بمثابة الأداة القوية والناجعة لإحكام السيطرة على الأفراد والمجتمع، والتلاعب بالقيم، وفرض قيم جديدة تخدم سياساتها ووجودها، فنحن نعيش اليوم تحت تأثير ثقافة نمطية، معلّبة في قوالب جمالية تصدّرها وسائل الإشهار الحديثة التي تعتمد على الإغراءات التي توفّرها التقنية، الأمر الذي يعني كنتيجة أنّ هذه الأخيرة هي كما قال “هربرت ماركوز"، “مشروع اجتماعي تاريخي غرضه تحقيق السيطرة". لقد بنى فلاسفة مدرسة فرانكفورت فلسفتهم على رؤية نقدية لواقع الحضارة الغربية المعاصرة، وقد وصفوه بالواقع المتناقض؛ ففي الوقت الذي عرفت فيه العلوم والتكنولوجيات تطورات خارقة وسريعة، شهدت العلاقات الإنسانية نكوصا خطيرا بلغ حالة من الفوضى والبدائية والعنف الذي شكّل تهديدا لدلالة الإنسان وقيمته ووجوده، في ظلّ مجتمع تفاقمت فيه أمراض اجتماعية كالانطوائية، والانغلاق، والتعصّب، والاغتراب المفضي إلى رؤية تراجيدية للواقع. ولعلّ الغريب في الأمر أنّه في الوقت الذي تطوّرت فيه وسائل الاتصال الأمر الذي يعني امكانيات أفضل للتواصل الإنساني، نجد أنّ العلاقات الإنسانية دخلت في مرحلة من الفتور، وصار المجتمع يعاني من تمزقات داخلية، بسبب تفشي النزعة الفردانية والاحتكار والأنانية والمنافسة غير الشريفة التي تسخر لها كل الوسائل الأكثر تطرفا أخلاقيا. بوجيز العبارة، فإن نمط الحياة المعاصرة لم يعد يستوعب الشرط الإنساني، بقدر ما صار يقيّم الإنسان وفق آليات تقييم الأشياء والسلع، ولذا لن يكون غريبا أن يتحوّل السلوك الثقافي إلى نوع من الانعكاس القاسي لما آل إليه العقل المعاصر. لقد كانت من مهام هذه المدرسة نقد العقل الحديث من أجل فهم الأسباب الحقيقية التي أدّت بالإنسان المعاصر إلى السقوط في مطبة اللاعقلانية، وبروز نمط جديد من العقلانية المتواطئة مع الايديولوجيا التقنية وهي ما تسمى ب (العقلانية الأداتية). ويُفهم من هذا المصطلح، كما حدده “هوركهايمر" ذلك “العقل الذي يستخدم كأداة لبلوغ المنفعة مما يضر ببنية العقل ذاته، ذلك أن العقل الأداتي عقل براغماتي يتلخص همه الوحيد في إنتاج النجاح، أو على الأقل ما يساعد على الوصول إلى ذلك دونما اكتراث بمضمون ما ينتجه أو بقيمته، بمعنى آخر إن احتقار (العقل الأصيل)، العقل الفعّال، سيؤدي بالضرورة إلى تراجع مفهوم (الأنوار) إن لم نقل تدميره". هذا يعني أن العقل الحديث قد خان أحلام التنوير، وانحرف برسالته إلى أهداف تخدم القوة وايديولوجيات السيطرة والهيمنة. 3 - الطابع الجماهيري للفن المعاصر: لقد اختلف فلاسفة مدرسة فرانكفورت أنفسهم حول أبعاد الثقافة الجماهيرية، ودلالة تحوّل الفن إلى سوق لتلبية الحاجات الثقافية للجماهير؛ فمنهم من وجد في الطابع الجماهيري وسيلة لتقريب الفن من الجماهير، وقد مثّل هذا الموقف “والتر بنيامين"، الذي اكتشف “في قيمة العرض (قيمة الاتصال) عن الصفة الديموقراطية والنقدية للفن المعاصر، ولاسيما الفيلم السينمائي، الذي يمكن أن يمارس النقد والديموقراطية على نطاق جماهيري واسع، بدلا من تلك الفنون التي تعتمد على التأمّل الفردي الهادئ". فقد ساهمت التكنولوجيا في نظره في تحويل جوهري للفن، بإخراجه من طابعه الفردي التأمّلي أو الشعائري، كما يفضّل أن يسميه، ليكون في متناول الجميع دون أي اعتبار لانتماءاتهم الطبقية أو العقدية أو مستواهم العلمي؛ ففي عصر النسخ الآلي أصبح من الممكن لأيّ فرد أن يتحصّل على نسخة من لوحة تشكيلية، أو معزوفة موسيقية أو أوبيرالية نادرة، وتكون متوفرة في أي وقت يشاء. غير أن فكرة الاستنساخ الآلي ذاتها، والتي تحيل إلى علاقة الفن بالتقنية، قد تكون مضرّة بالفن، وقد تسبّب اضطرابا في علاقة الفن بجوهره، أو بصورته الأصلية، فلا يمكن على سبيل المثال أن نساوي بين حضور عرض موسيقي في قاعة مخصصة للموسيقى أو السماع إليه عبر الراديو أو قرص مضغوط، وكما قال “مارك جيمنيز" فإن موقف بنيامين يبقى غامضا “فزوال العبق قد يعني أيضا اضطراب وظيفة الفن برمته، أو التصفية التدريجية للتراث وإفقار التجربة المباشرة للأشياء لصالح التجارب غير المباشرة. أو تلك التي تمّ نشرها عن طريق وسائل الإعلام وفي وسط عالم الاستنساخ والحيل والمظاهر الخادعة". أمّا ثيودور أدورنو فكان موقفه أنّ التقنية قد أدخلت الفن في أزمة حقيقية تتعلّق بالتباس وظيفته داخل المجتمع، فقد ساهمت الحداثة التقنية في جعل الفن جزء من دائرة صناعية تتحكّم فيها أجهزة ومؤسسات استوظفته من أجل تخدير العقول، وإبطال قدرتها على ممارسة النقد. لقد ساهمت هذه الصناعة الثقافية في انبلاج مفهوم الثقافة الجماهيرية، ومن سماتها الايهام بالفردانية، في حين أنّها تعمل جاهدة في سبيل اخضاع العقول لنمط تفكيري واحد، ولمنظومة قيمية واحدة. ويسمي أدورنو هذه الآلية بمصطلح “المعيارية" والذي يعني “نزوع السلع الثقافية إلى التشابه واحدتها مع الأخرى، وهي تبرز جزئيا من استخدام عمليات الإنتاج الضخم القائم على نظام التجميع، ذلك النظام الذي يجمع الآلات والعمال بحيث ينجز كل عامل عملية خاصة على سلعة ناقصة، والذي يدفع المنتجات بصورة طبيعية باتجاه التشابه والتماثل". وتتسم المعيارية بخاصية استعارية تتمثّل في البحث عن آليات لتطويق / محاصرة الجماهير، وجعلها خاضعة لصيغة ثقافية محددة، يكون هدفها العناية بمفعول المنتوج الثقافي على هذه الجماهير، لا بالمادة الإبداعية. من هنا، تنحرف الثقافة، والفن على وجه خاص، عن وظيفتهما الحقيقية المتمثلة في التنوير والتحرير من سلطة المؤسسات والأنظمة، ذلك أنّ اخضاع الفن إلى منطق السلعة، سيكون له مفعوله السام على الفن ذاته؛ إذ سيدرك مقرونا بمقابله المادي في السوق، لا بالقيمة الجمالية التي يتصف بها. إذا كان جوهر الفن هو الفرادة واجتياز المألوف، وتغيير إدراكاتنا للواقع القائم، فإنّ الفن في ظل المجتمع السلعي صار يعبّر عن رؤية مماثلة للعالم، تكرّس الواقع بكل تناقضاته، وتوهم الإنسان بالتحرّر، فحين “يتداخل الفن مع هذه الثقافة التي تصنعها أجهزة التسلط والهيمنة فإنّ الفن، كجوهر لفعل التحرّر، يموت ويتحوّل إلى سلعة استهلاكية واداة لتخدير الجماهير وتدجينها في صورة معينة". إنّ مبدأ التماثل الذي تقوم عليه استراتيجية الصناعة الثقافية يحاول أن يبطل قدرة الإنسان على التخييل، ويجعل الإنسان ضحية طوفان لا متناهي للسلع الثقافية، لا تمنح له متسعا من الوقت لكي يستوعب كل هذا السيل العارم من المنتوجات، فيكون عاجزا عن تأمّلها والتدبّر فيها، والتفكير في كلّ أبعادها. ما تريده هذه الصناعة هو قبول السلعة الثقافية كما هي دون أي مراجعة، وتحويل المتلقي إلى مجرد واجهة استهلاكية منقوصة الفعالية، تفكّر في مكانه، وتتخيّل في مكانه، وتفرض عليه أذواق هي أشبه بمنبهات شرطية توفّر للمنتوج الثقافي إمكانية تسويقه. لقد قاوم أدورنو هذا الشكل الفجّ من الثقافة، ودافع عن ذلك الفن الذي يحرّض على الوعي، ويستعيد قابلية الإنسان على الحلم والتخييل، ذلك أنّ “التخييل الجمالي يميل إذن إلى تحرير الواقع التاريخي، فهو في رفضه قبول التحديات المفروضة على الحرية كأشياء نهائية، من قبل قوانين الواقع، يقوم بوظيفته النقدية بتقديم عالمه الخاص". 4 - الكتاب بين الحاجة الثقافية والحاجة التجارية: بهدف تنوير أكبر للقضايا التي ناقشناها، سابقا، سنأخذ مثال ملموس يتعلّق بسوق الكتاب، وعملية نشره، وما يتخلل ذلك من مفاهيم جديدة على ضوء المعطى السيسيولوجي الجديد. سنعتمد على مرجع أساسي هو كتاب (سيسيولوجيا الأدب) للباحث الفرنسي (روبيرت اسكاربيت)، الذي قدّم مقاربة اجتماعية للأدب لكن من باب صناعة الكتاب. وتتأسّس هذه المقاربة على إعطاء أهمية للبعد الشيئي للأدب، أي أنّ الأدب قبل أن يكون مضامينا أو أفكارا أو صورا فهو شيء ملموس يخضع لمعيار القياس الكمي، إذ يعتبر الأدب هو الفرع المنتج لما يسمى بصناعة الكتاب، علما أنّ يعرّف الكتاب بأنّه “نتاج مصنوع ليوزع تجاريا وبالتالي يخضع لقانون العرض والطلب". فالأدب أوّل ما يخضع له هو لآلية التصنيع، وبذلك ينخرط في دائرة الإنتاج الصناعي الموجه إلى الاستهلاك العام. من هنا، ستغدو القراءة فعلا استهلاكيا بالدرجة الأولى، والقارئ هو المستهلك لأنه يقوم باقتناء الكتاب، كمرحلة أولى قبل الدخول في غمار القراءة والتأويل والفهم. تقتضي إذن صناعة الكتاب وجود مؤسسات لها رؤوس أموال ومجهزة بيد عاملة وبآلات وتقنيات، والأهم من ذلك مدعمة باستراتيجيات وخطط عمل توضح سيرورة تحرك المنتوج الثقافي في السوق، فالأدب ليس فقط الذي ينتج المعرفة والجمال، لكنه أيضا يمثّل تجارة رابحة. صحيح أنّ من أولويات صناعة الكتاب التفكير في الأرباح، وهذا ضروري وصحي، غير أنّ طغيان المنطق التجاري على حساب نشر الثقافة هو الذي يشكل إذا على الثقافة والإبداع. في هذا السياق، تحدّث اسكاربيت عن آليات النشر؛ وهي: الاختيار والصناعة، والتوزيع، وهي عمليات تراعي متطلبات الجمهور الافتراضي، وحاجات الواقع، فالناشر يراعي ما هو مطلوب في السوق، فالاختيار، يكتب اسكاربيت، “يفترض أنّ الناشر (أو مندوبه) يتمثّل جمهورا معينا، ويختار بين ما يتقدّم له من مخطوطات، المناسب أكثر، لهذا الجمهور. ولهذا التمثّل، طابع مزدوج ومتضاد، إذ فيه، من جهة، حكم واقع على ما يفضّله ذاك الجمهور، ليشتريه، ومن جهة أخرى، حكم قيمي على ما يجب أن يكونه ذوق هذا الجمهور، انطلاقا من معطيات النظام الجمالي الخلقي للجماعة الإنسانية التي تجري العملية في بوتقتها". فالواقع اليوم أنّ الكتاب ليس مطلوبا بإلحاح في السوق الثقافية، خاصة الكتاب الجاد والنوعي الذي يحاور العقل، ويفجّر الأسئلة، ويروم إلى تغيير الأفكار، واستفزاز اليقينيات. الكتاب، في واقعه العربي، يعاني من هجرة الجمهور إلى وسائط ثقافية جديدة، مكتفيا بنوع خاص من الكتب التي تلبي حاجاته العابرة كالكتاب الديني، أو المدرسي، أو الكتب العملية، ولنا في الجامعة، اليوم، أكبر دليل على عزوف عام عن القراءة حتى في الوسط النخبوي. للموضوع إحالات جامعة بجاية أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي