الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي هو من الشخصيات الدمثة، اللبقة، الذكية والمتعلمة التي عرفتهم السلطة في الجزائر خلال تاريخها الذي تجاوز نصف القرن تقريبا إذا ما أرخنا لها منذ لحظة ميلاد الدولة/ السلطة الوطنية، معروف بنزوعه نحو التوفيق بين الأصالة المحافظة والحداثة ذات الطابع الانفتاحي وبتجنبه المواجهة علنا مع خصومه السياسيين حتى وإن كان قضى عشية الاستقلال بعض الوقت وراء القضبان، وبميله نحو الكتمان والتعبير بصور ارستقراطية عن بعض آرائه وأفكاره السياسية، لكن كذلك بتردده في اللحظات الحرجة وركونه إلى السلبية "الإيجابية" أمام أقوياء الساعة.. وهو معروف كذلك بثقافته الموسوعية وكتاباته خاصة تجاه القضايا السجالية إبان حرب التحرير بشكل خاص، ومقالته حول مواقف ألبير كامو من الثورة الجزائرية دليل ساطع على ذلك.. ويحسب له أنه من الشخصيات الفاعلة التي عبرت وإن كان بشكل مرن عن مواقفها ليس فقط ما تعلق بتاريخ الحكم في الجزائر والشأن الداخلي، بل كذلك ما تعلق بالقضايا الدولية بشكل عام.. ويأتي الجزء الثالث من مذكراته الذي صدر عن منشورات القصبة ليجعل منه أحد الفاعلين الذين أدلوا بشهاداتهم عن مراحل دقيقة من حياة الجزائر المعاصرة.. الكتاب جاء زاخرا بمعلومات مهمة وثمينة عن لحظة بالغة حول الصراع بين المتنافسين من أجل خلافة هواري بومدين، فلقد كشف لنا الدكتور أحمد طالب عن دور الثلاثي، (رجل المخابرات العتيد قاصدي مرباح، والجنرال رشيد بن يلس والجنرال بلوصيف) الذين نجحوا في إبعاد كل من المتنافسين، محمد الصالح يحياوي وعبد العزيز بوتفليقة عن خلافة الرئيس الراحل هواري بومدين، وكيف تمكن هذا الثلاثي من إعادة مركز القرار إلى العسكر على حساب السياسيين.. ويكشف لنا الخطة السرية لخيار هذا الثلاثي العقيد الشاذلي بن جديد الذين كانوا يراهنون على ضعفه وعلى عدم قدرته الصمود على رأس الحكم، بحيث كان في نظرهم رجل اللحظة الانتقالية التي قد لا تتجاوز مدة الستة أشهر.. ويقدم لنا الدكتور أحمد الإبراهيمي معلومات في غاية الأهمية عن وزن محمد الصالح يحياوي الذي كان يمتلك آلة الأفلان ذات القدرة التعبوية خاصة خلال السنتين الأوليتين من حكم الشاذلي بن جديد، ثم الآلية التي كان يتم بها تعيين الوزراء خاصة أثناء تشكيل الحكومة الأولى والثانية في عهدة الشاذلي الأولى وكيف تمكن الشاذلي بن جديد من أن يجعل السحر ينقلب على الساحر، وبالتالي كيف تمكن بالتدريج التخلص من كل أولئك الذين كانوا يطمعون في إزاحته من على رأس الحكم، خاصة الثلاثي يحياوي ومرباح وبوتفليقة بحيث كان هذا الأخير هو أول ضحايا ذكاء الشاذلي. يدلي الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بشهادته عن خلفيات إنشاء مجلس المحاسبة الذي جرد بوتفليقة من كل أسلحته لاستعادة الحكم، فاكتفى بمنصب وزير مستشار وعضو في المكتب السياسي إلى لحظة إعفائه من كل مسؤولية منذ العام 1982 ويكشف عن التصرفات داخل سرايا الحكم تجاه أحداث الربيع الأمازيغي في 20 أفريل 1980 ويكشف أن من اتخذ قرار استعمال القوة ضد الطلبة المتظاهرين هم محمد الصالح يحياوي المعروف بنزعته العروبية والاشتراكية المتشددة، قاصدي مرباح السكرتير العام لوزارة الدفاع ومسؤولي الدرك الوطني والداخلية.. وهذا بعد أن تم إبعاد من الاجتماع كل من طالب وبرارحي وزير التعليم العالي، ومهري وزير الإعلام ووالي ولاية تيزي وزو... كما يكشف في مذكراته أن مرباح هو من اقترح لنفسه منصب سكرتير عام لوزارة الدفاع في حين أن الشاذلي كان قد اقترح عليه منصب وزير الداخلية، ويعلق الدكتور أحمد الإبراهيمي على ذلك، أنه لم يكن ليحدث في فترة بومدين، ويفسر خضوع الشاذلي لمطلب مرباح أن يده لم تكن طليقة وأن مرباح من وراء اختياره لهذا المنصب كان يهيء لنفسه الوسيلة التي ستمكنه من الوصول إلى خلافة الشاذلي في وقت قريب.. كما يروي الدكتور طالب أنه اعتذر عن المنصب المستحدث من طرف الشاذلي، وهو الوزارة الأولى الذي تقلده أحمد عبد الغني، ثم خلفه في ذلك عبد الحميد الإبراهيمي المدعو عبد الحميد لاسيانسي، ويبرر الدكتور رفضه لهذا المنصب بعدم تمكنه من التكوين الإداري ومن المالية، لكن بحسبه فإن الشاذلي لم يقتنع بهذا التبرير وهذا ما جعل علاقتهما الحميمة يعتريها بعض البرودة، وبحسب الدكتور طالب أن بعض الوشاة أوهموا الشاذلي بن جديد أن طالب يطمح إلى ما هو أكبر، يعني منصب رئاسة الجمهورية، وهذا ما حاول الدكتور طالب أن يكشف عن بهتانه في مصارحته للشاذلي بن جديد قائلا له أن منصب رئاسة الجمهورية لن يكون صاحبه إلا رجل منحدر من المؤسسة العسكرية.. ويخبرنا الدكتور طالب أنه كان من وراء قرار الشاذلي بالعفو عن محفوظ نحناح وذلك بعد أن اتصل به أحد معارفه للتدخل عند الشاذلي بن جديد، ويقول طالب أنه لم يكن يسمع بنحناح الذي حكم عليه بسبب إتلاف عمود كهربائي! لست أدري لماذا ربط الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي نحناح بعمل تخريبي، في حين أن الرجل كان ينتمي إلى حركة سياسية ذات طابع ديني وأن جوهر المسألة كان أصلا سياسيا، عندما عارضت جماعة نحناح السرية سياسة بومدين، والميثاق الوطني.. كما أن نحناح صرح فيما بعد أن دولة الكويت هي من تدخلت عند الشاذلي لإطلاق سراح جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر.. كما أننا لاحظنا الصمت المطلق للدكتور أحمد طالب يوم كان وزيرا مستشارا للشاذلي عن أول وأضخم تجمع للإسلاميين في نوفمبر 1982 وعن الاعتقالات التي مست نشطاء الحركة الإسلامية منهم الدكتور عباسي مدني، ووضع شيوخ بارزين كانوا من جمعية العلماء المسلمين ورفقاء درب والدهم مثل الشيخين المشهورين أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني وكذلك صمته المطبق حول قضية مصطفى بويعلي وأسلوب معالجتها وحول الاعتقالات التي مست نشطاء الحركة الثقافية من جديد ومناضلي حقوق الإنسان وعلى رأسهم الأستاذ علي يحيى عبد النور.. وثمة ملاحظة أخرى تتعلق بمظاهرات قسنطينة التي جوبهت بقمع شديد وكانت بمثابة تمرين أولي لأحداث أكتوبر 88 لم يعلق عليها الدكتور أحمد طالب بحرف.. والدكتور لم يقنعنا بموقفه من أحداث أكتوبر 88 عندما يذكر أنه قدم استقالته للشاذلي احتجاجا على حكومة أطلقت النار على أبنائها.. بينما طالبه هذا الأخير بالتكتم على استقالته، فأكتوبر كان نتيجة لتأزم نظام ووصوله إلى طريق مسدود وليس نتيجة تصرفات الشاذلي لوحده أو بعض المسؤولين، فالمسؤولية على صعيد سياسي وأخلاقي هي مسؤولية الحكومة والنظام كله اللذين كانا مشكلين من رجال، خاصة وأن الدكتور كان من الرجال الذين كانوا يتمتعون بثقة الرئيس وبعلاقتهم الوطيدة معه في اختيار الرجال وصناعة القرارات.. وبرغم هذه الملاحظات الأولية عن الجزء الثالث من مذكرات طالب، يساهم هذا العمل/ الشهادة في إضاءة جوانب ظلت لوقت محاطة بالغموض ومكتنفة بالظلال وفي تنوير الرأي العام بما حدث فعلا داخل دوائر الحكم من حياة الجزائر السياسية من صراعات واجتهادات ومن محاولات نهوض وكبوات.. كتاب لابد أن يقرأ.