احتضن المسرح الوطني محي الدين بشطارزي، مطلع الأسبوع الجاري، العرض الأول لمسرحية "السوسة" لمؤلفها سيد علي بوشافع، ومخرجها جمال قرمي. على مدى ساعة وعشرين دقيقة من الزمن، تابع الجمهور حكاية "فاتي" الكنة و حمويها (مراد خان و دلال كسيلي). عمل اختلط فيه الأداء الحسن للبعض و البطيء للبعض الآخر، اشتغال على واقعية حبست الممثلين في إطار مغلق، دون موسيقى أو إضاءة مميزة. ملاحظات كثيرة نقلناها إلى قرمي المخرج، فجاءت إجابته في هذا الحوار: «السوسة" عنوان آخر مسرحية أخرجتها مع تعاونية فن المسرح، وقد ظهر جليا خيارك لمسرح واقعي شعبي يشتغل على نص جزائري محض؟ المسرح ما هو إلا فرجة في نهاية المطاف، ويمكن أن يكون وسيلة لتوعية الناس، وترقيتهم عن طريق معالجة مواضيع لها علاقة بمعاشهم اليومي. أرى أننا في المرحلة الأخيرة، يعيش الجزائريون ظواهر متتالية أثرت على الحياة العائلية و الاجتماعية والنفسية، كثافة ما نشاهده في الشارع، يلقي علينا مسؤولية، نحن المسرحيون، ترغمنا على نقله إلى الخشبة، في إطار العلبة الإيطالية السحرية، التي تروي الحياة بشكل مميز. لهذا السبب تبنيت المسرحية، لأنها تحكي هما يوميا يعرفه الجميع عندنا، ولأن النص ألفه كاتب جزائري، فهو ليس اقتباسا أو نقلا، وبالتالي استفاد من صندوق دعم وزارة الثقافة. على ماذا اعتمدت للبناء الدرامي للقصة التي تحكي صراع جيلين، وتضع على الركح جدلية الخير والشر الأبدية؟ اعتمدت على صدق أداء الممثلين، الواقعية في الطرح، والمكان يكون محدودا ضيقا، لأن المسرح شئنا أم أبينا، هو نص وممثل، بغض النظر عن التقنيات الحديثة، مثل الكوريغرافيا أو السينوغرافيا أو المؤثرات الصوتية والإضاءة. أول ملاحظة في العمل أنك حددت مجال تحرك الممثلين، والرسم الذي كان ظاهرا للجمهور، جعل وجودهم في ذلك الإطار يشبه القهر ويقلل ن حرية آدائهم؟ هي وجهة نظرك، المخرج مطالب بتحديد فضائه على الخشبة، ربما قابلية مشاهد معين، أن يرى عدم أريحية الممثل، و اقتصاره على حركات ميكانيكية، هو راجع ربما لأن العرض ما زال في أول ظهور له، والممثل لم يهضم بعد العمل بتفاصيله الكثيرة. الممثل مركز أداءه على المدرسة الواقعية، وتحقيقه 20 بالمائة من العمل اعتبره نجاحا في حد ذاته، لأنه توصل إلى مبتغاه، ناهيك عن رد فعل الجمهور، الذي انسجم مع الشخصيات السلبية والإيجابية. وقد تناسوا أن الممثلين وضعوا في علبة إيطالية مغلقة. أكيد أن الجمهور تجاوب مع الموضوع الذي يتناول حكاية علاقة الكنة بأم الزوج، وأطماع ابن عاق والميراث، والبارز أن الجميع كان يتفاعل مع الممثلة دلال كسيلي في دور"العجوزة"، وأقل بكثير مع دور مراد خان وغيره؟ صحيح أن بروز شخصية على حساب أخرى، مرتبط بدرجة هضم الممثل لدوره، ومدى تفاعله مع الجزء الخاص به في تلك القصة. وهذا راجع إلى حب الممثل لشخصيته وإيمانه بها، واعتناقه لملامحها. ثمة ممثلون يبادرون ويبحثون، وهناك صنف ثان يكتفي بما هو مكتوب ويظهر أداؤه عاديا بسيطا. علما أني لم أركز في المسرحية على دور "العجوزة" لكن دلال اشتغلت على الشخصية، سواء من حيث المظهر الخارجي أوالداخلي، ونجحت في تمرير رسائلها. كما استطاعت دلال أن تتجاوز تلك الصورة النمطية التي اكتسبتها من السلسلة الفكاهية "الفهامة"، والجمهور أحبها كثيرا اليوم لقوتها على الخشبة. لذا ثمة فرق بين الممثلين الذين يعملون بالحدس، ويكتفون به، وبين ممثل يحفر في الدور المنوط إليه. مراد خان ظل تقريريا في أدائه، لم يلبس دوره الدارمي، وكان يشبه شخصية الشيخ التي ظهر بها في الكاميرا الخفية شهر رمضان الفارط؟ هي ملاحظة في محلها، ولن أتهرب من مسؤوليتي. مرات الممثل الذي ينقصه الذكاء لتسيير الخيط المتصل لشخصيته، يدخل في نمط آخر يبعده عن الأصل ودون وعي منه. هذا ما يحيلنا إلى أهمية التكوين، الممثل الجزائري ذو موهبة، لكن يفتقد المنهجية التي تجعله مؤديا محترفا، الممثل صاحب أفكار ولكن مبعثرة، ويقدمها بلا وعي أحيانا. قلت إن مسرحية "السوسة" تنتمي إلى المسرح الواقعي، مع أن الأخير لا يتعارض مع الفرجة المسرحية، والمستوى الثاني الذي ينتقل إليه المتفرج لحظة تعاطي المسرحية. دعني أتذكر "البوابون" التي كانت واقعية هي الأخرى لكنها مليئة بالمفاجآت والسلاسة والذكاء؟ انا من المخرجين الذين يدافعون عن بساطة الطرح. أحب الإبداع في نص بسيط، يكلفني العمل مع صعوبته الخفية. في هذه المسرحية كان هدفي إظهار وإبراز صراع الأجيال، الأصالة والعصرنة، العادات التي فقدناها في الجزائر. أنت تبحث عن جمهور ببروفيل خاص، قد يشبه جمهور التلفزيون الذي يتابع الحصص الفكاهية؟ «السوسة" مسرحية تحكي عن الجزائر الحقيقية، بلباسها التقليدي "الحايك" والقفة، وقد كان من بين الحضور غير الجزائريين، وعبروا لي عن استمتاعهم بالعرض، وتذوقهم لعمل جزائري محض. ليست القفة والحايك ما يصنع هوية المسرح الجزائري؟ الثقافة يجب أن يصدرها المسرح. وعلى الخشبة يجب أن تنوع في المواضيع التي تهم عامة الناس. يجب أن نصل إلى مرحلة يقرر فيها الجزائري أي نوع من المسرح سيرى السهرة. عيبنا أننا نخشى إخراج مسرحيات تتحدث بعامياتنا، مع أن ذلك لا يتناقض مع المرجيعات الأكاديمية للفن الرابع. لماذا لا تعود إلى نوع السكاتش لاستمالة الجمهور؟ ظاهرة الطمع أو غيرها تناولتها مسرحيات عالمية مشهورة، ومسرحيتنا هي دعوة لتجنب ظاهرة سلبية في أسرنا وهي الطمع. والسكاتش له خصوصياته، مسرحيتي بمشاهدها وكتابتها الدارمية، مبنية على منحنى بياني، لها موضوع وقصة وتشويق وحل. تخليت عن الموسيقى في عملك؟ أنا ضد الموسيقى التي تبث لنا الأحاسيس، أردت أن أجرد الممثل من الموسيقى لاستخراج الشعور الصادق من ذاته. أعلم أن الممثل يستعين بالموسيقى لاستخراج طاقة تؤثر في الغير، واعلم أيضا أن الجمهور قد يتأثر بالموسيقى ويهمل ما يقدمه الممثل على الخشبة. ومع ذلك أصيب ممثلوك بحالة بطء في التفاعل مع مجريات القصة والتنقل من حالة إلى أخرى، كان ذلك واضحا؟ أنا معك في هذا التفصيل، التحكم في الصمت، يلزمه الضبط والتدقيق، وهذا لن يكتمل في العروض الأولى. لأن ضمن 30 ثانية يجب التحكم فيها، بشكل يصبح حسابا إراديا في ذهن الممثل. هذا الأخير عليه أن يجعل من الصمت نصا داخليا آخر يشتغل عليه كثيرا. من جهة أخرى حاولت أن ألقن الممثلين كيف لا يكونوا أبواقا للكاتب. وقد سجل الجمهور تقبلا للروح التي ترجمت على المنصة. لماذا لا تعلن رغبتك في العمل ضمن ما يعرف بالمسرح التجاري، الذي يقدم للاستهلاك العام موضوعات "لايت"؟ لو نصل إلى هذا المستوى، نكون قد نجحنا في فتح أفق جديدة للخشبة الجزائرية. مسرحيو الجزائر يطرحون مواضيع خيالية، بعيدة عن النطاق الوطني، وعندما يطرحونها على الجمهور، يشعر هذا الأخير أنه غريب عما "يلعب". الإشكال المطروح اليوم هو هل مسرحية السوسة تنتج لتعرض على أكبر قدر من الناس، أم تنتج لتشارك في المهرجانات الوطنية والدولية فقط؟