لقد وصلت القصيدة العربية المعاصرة حاليا في كثير من نماذجها إلى حالة من الانسداد نتجتْ عن تحوّل النص الحر إلى شكل نمطي يعيد إنتاج ذات شعرية واحدة وتكرارها، حتى أصبحتْ بمثابة "الفحل الشعريّ" الجديد، وانقلبتْ إلى مرآة للاستنساخ والإعادة، بعدما استهلك الشعراء الروّاد كثيرا من إمكانات الحداثة سواء من حيث تقنيات الكتابة الشعرية، أو من حيث استلهام التراث العالمي في نوعٍ من فتح النص المعاصر في حوار مثمر مع نصوص قديمة. فالشعراء المعاصرون اليوم أوشكوا أن يتحوّلوا إلى "مريدين" يرددون كلام الأشياخ كلٌّ بطريقته، وبما تؤهّله إليه آلياتُه الشعرية، ومقدرته على التعبير، وهذا الحال يبتعد إلى حد كبير بالشعر عن غايته وهي أنْ يظلّ يختلف عمَّا سبقه من جهة، وأنْ يستمر في التجدد وفي الاختلاف عن ملامحه الأولى في كل كتابة جديدة من جهة أخرى. فالشعر، من هذا المنظور، "منذور للحرية"1التي تمنحه حقيقته وقدرته على الابتكار والخلق. من أجل هذا، يمثِّل التجريب في الشعر إمكانية غير مستهلكة في يد الشاعر يتجاوز بها كلَّ نمط جاهز أو قالب ثابت لينفتح على آفاق أخرى، ويرسم مسار تجربته الشعريّة على بياض بكر، وبلغة بكر أيضا. فالتجريب حركة متجددة داخل اللغة، وفي فضاءات عالم الشعر، ببساطة، لأنه نابع من تجربة فردية ومن روح مغامرة تنفتح على شتّى الاحتمالات المتاحة في الشعر، دون أنموذج يقتدى به. فالشاعر الذي يأخذ على عاتقه مهمة التجريب يظل في صراع دائم، ومنقطع النظير، مع كل تجاربه الشعرية السابقة، ومع كل التقاليد الإبداعية المتاحة؛ فهو شاعر يروم أن يكون كلامه بداية دائمة، وأن يظفر بالرؤى والمعاني الجديدة، بل أن يجد لرؤاه ومعانيه أشكالا جديدة تتناسب معها، وتنهل في الآن نفسه من خصوصية تجربته ومن رغبته في الاختلاف والتجدد الدائمين. من هنا، يكون لزاما على الشاعر وقد سلك ليل التجريب الحالك، أن يكون على وعي عميق بوظيفة الشعر الحقيقية، وأنها تكمن في "خلق الأشكال المعدَّة لاستقبال الحياة، وليس في استلام الأشكال التي تنتجها الحياة"2ويحوّلُها الإنسان إلى قوانين أدبية وإبداعية تقهر الشاعر وتحد من إمكانات انعتاقه وتحرره. بل إن وظيفة الشعر، في كثير من الأحيان، تكون خرق القوانين والأعراف الإبداعية والأنماط الثقافية، والتأسيس لكتابة جديدة تنبع من لحظتها الزمنية بشتى أبعادها. من هنا يشترك التجريب والمفارقة في الرؤية، لأن كليهما يزعزع البنى الثابتة التي أرستْ دعائمها النخب الشعرية، وجعلتها قوانين صارمة تدعي الكمال والاستمرار بينما هي ترزح مكانها والعالم يتقدم إلى الأمام. فالمفارقة، في هذا الباب، باستطاعتها أنْ تكون أحد أهم مظاهر التجريب الشعري لأنها، بتنوعها، تتيح للشاعر كثيرا من التقنيات الجديدة كالتناقض والتضاد، والاستعانة بالسرد لتتحوّل الصورة الشعرية إلى مشهد والقصيدة إلى حكاية رمزيّة تحفل بالاشتغالات الجديدة وتنتصر للحركية والاستمرار. في هذا المنظور، أي من خلال العلاقة الموجودة بين التجريب والمفارقة، سنقترب من ديوان "محاريث الكناية" للشاعر الجزائري الأخضر بركة، بغرض دراسة المسار التجريبي الذي أخذه الشاعر على عاتقه، وهو يبحث عن المعنى الجديد، عن الجملة الجديدة، وعن الرؤيا الشعرية المختلفة التي تنهل ملامح تشكلها من خصوصيات الإنسان الجزائري ومن تراكماته المعرفية والحياتية والتاريخية. فكأن الشاعر هنا يحفر في تربة غير مكتشفة بعد و«يبحث في عروش النص المستحيل" عن البدايات المربكة طلبا لأشكال وأساليب شعرية تخلقها الحالة الشعرية في حالها ومقامها، وتعلي بناءها الرؤيا وقد انطلقتْ من التفاصيل اليومية، ورحلت دلالاتها إلى عالم الشعر، لتصبح قيما إنسانية تقاوم سخافة المناسباتية التي يقع فيها كثير من الشعراء، وتترفع عن مدائح ومراثي الأحداث الزائلة، وعن المباشرة المقيتة التي تقتل الشعر، لتؤرّخ في الأخير للكائن المنفتح على مختلف مقامات الوجود: الأنثى، الحياة، الموت، الصراع، الرفض، الحرية، وأخيرا الباطن الكبير الذي تتجلَّى من خلال اختلاجاته كثير من حقائق الكائن وهو يقاوم أمواج الفناء ليضمن بقاءه واستمراره، وليحقق ذلك من خلال فهم أسرار نفسه وفهم أسرار العالم. محاريث الكناية ومرايا الاحتمالات(قراءة في العنوان): ينهل العنوان "محاريث الكناية" خصوصيّة تشكُّلة من لغة النصوص ذاتها، إذ انبنى على المنطق نفسه الذي انبنت عليه سائر نصوص المجموعة وهو الجمع بين المجسد والمجرد، أو الانطلاق من المجسد وصولا إلى التجريد. فلقد جمع العنوان بداية بين مادي ومعنوي، أي بين المحاريث بما تدل عليه من آلات حرث الأرض وتقليب تربتها، وبين الكناية، التي تدل لغة على الخفاء. ومرد هذا التركيب الجديد يرجع إلى كون "الشاعر في الحقيقة يبدع الصور ويخترع الكلمات ويشكل وينوع في ابتكار العلائق الجديدة بينها وبين العناصر الوضعية من لغته،" لكي يمنح لإبداعه إمكانات التجدد والاختلاف. الشاعر بهذا المعنى يخرق العرف اللغوي ويتجاوز الاحتمالات السابقة لاجتماع المفردات ضمن تركيب واحد، ليعطي لكل كلمة حياة جديدة في سياقات جديدة، وهو إذ يمنح، بهذا، البقاء لشعره وإبداعه، يمد في عمر اللغة ويساهم في تجديدها. يضعنا العنوان "محاريث الكناية" أمام مرآة تحبل بالاحتمالات، ويبشر متلقيه بعالم يحرث فيه الشاعر تربة الخفاء طلبا للمعنى الجديد، وبحثا عن حقيقة الكائن التي تتعدد وتختلف، وتتلوّن على سلّم الأخلاق والقيم من أعلاه إلى أسفله. فالشاعر، وإن عرض لنماذج بشرية كثيرة، إلا أنه ركز على منظومة القيم التي تحكم العلاقة بين الناس، وجاوز هذا إلى التعبير عن القيم الأكثر بقاء في الإنسان، جاعلا من "الكناية"، بما تحيل عليه من معاني الخفاء وأحيانا الغموض، سبيلا لسبر أغوار التجربة البشرية وفهم سلوكات الأفراد والعلاقات السائدة بينهم، ولتكوين نظرة جديدة إلى العالم وأشيائه تضيء بعض الجوانب المظلمة فيه، وتعبر عن شغف الذات الشاعرة بالبحث واندفاعها إلى المعرفة. فعنوان الديوان "محاريث الكناية" يعبر عن اشتغال صاحبه فيه، وتوحي بنيته على شروع الشاعر في التجريب، وفي الحفر في الغياهب وفي الخفاء. وسنتبيّن كل هذا من خلال الاقتراب من المتن الشعري فيما يأتي. شعريّة التفاصيل اليومية: شجرة الشعرية/ظلال السردية ينطلق الأخضر بركة في تأثيث عالمه الشعري من تربة الحياة ومن حجارة الواقع المعاش، متكئا على قدرته على ملاحظة حركة العالم بعين البصير الذي لا يفوّت كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، لتكون بعد ذلك مادّة شعريّة تتخذ من تفاصيل الحياة اليومية المختلفة سبيلا إلى صناعة المعنى وتحقيق شعريّة تقوم علاقتُها بأشياء العالم على وفاق دائم وعداوة دائمة أيضا، فالشاعر في محاريثه ينهل من قاموس الحياة كما هائلا من المسمّيات والموجودات المادية، ليتخذها مشروعا لتركيبته الشعرية، لكنه في الوقت ذاته، يستمر في عداوته مع الواقع، أو مع النسق المرجعي للغة، عن طريق ترحيل أشياء العالم ومسمياته إلى عالم الشعر، وتجريدها من معانيها السابقة، وتتويجها بمعانٍ جديدة تقتضيها الجغرافيا الشعرية المغايرة التي أصبحت تنتمي إليها. وقد تأتّى للشاعر تحقيق هذا، لأن "الحركة التي تنتظم فيها العلاقة بين اللغة (الذات) والواقع (الموضوع) إنما هي حركة جدلية" تؤسس لصراع حادٍّ قائم بين اللغة والعالم، بين الشاعر، وهو يحاول إعادة تعريف الأشياء، وإعادة موقَعتِها ضمن خارطة الشعر، وبين أشياء العالم التي تصر على مواقعها القديمة وتحاول أنْ تنسرب من شباك الشاعر العنيدة، ولكن عبثا تحاول. يقول الشاعر: «واذهبْ أيّها الوقتُ إلى السّوق اشتر الأيّام في كيس وبعثرهُ لكي يقتات من آثارنا دود الكآبة." ينجح الشاعر في ترحيل أشياء الواقع وعاداته وأماكنه إلى عالم الشعر، في سبيل قصيدة التفاصيل التي تستند على اليومي لتصل إلى إنتاج المعنى، ولكنه في الآن نفسه يتكئ على عصا السردية ليحوّل قصائده إلى حكايا، وديوانه إلى رواية شعرية تعيد تعريف الأشياء وفق المنطق الشعري الذي يُنزلُ الوقت إلى السوق، ويترك الأيام نهبا ل "دود الكآبة"، في مشهد بديع يصور آلة الفناء وهي تطحن الكائن دون أنْ ينتبه نفسه إلى ذلك. وإذ يتخذ الشاعر من السرد طريقا إلى القول الشعري، يعيد زمن الشعر على حصان الحكاية، ويرفع مجد القصيدة من جديد متمثلا بقولة أبي حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة": "أحسن الكلام ما قامتْ صورته بين نظم كأنه نثر، ونثرٍ كأنّه نظم".من هذه الخصوصية الأجناسيّة يبدو التجريب الشعري هنا متحققا من خلال السرد والحكاية، وينتج عن هذا أنْ تحفل المجموعة بثلاثة أسس تميّزها وتمنحها فرادتها هي: الصورة الشعرية، والصورة المشهدية، والزمن. فالأساس الأول، أيْ الصورة الشعرية، يتميّزُ باعتماده الكبير على منطق المفارقة خاصة في جانبيْها الأكثر حدة وهما التناقض والتضاد. وتساهم هذه الميزة التي تشكّلتْ وفقها الصورة الشعرية في إحلال نوع من الحركية تتناسب والمتكأ السردي، وتتيح للحكاية الشعرية السير صوب بناء المعنى المقصود بخفة ويسر. بينما يساهم الأساس الثاني وهو الصورة المشهدية في تحقيق السردية ذاتها داخل النص الشعري، وفي التمهيد للزمن داخل المجموعة، والذي ينهل خصوصيته من كثافة اللحظة الشعرية وغموضها أي من الزمن الشعري، وفي الوقت نفسه، من انسيابية الزمن السردي وانطلاقه: «جسدٌ يرتاب أم متن سماء نزلتْ تكتبه فوق جلود التجربة حينما دار غضار طيّعا في ورشة بين يديّ الشيءِ وانهارتْ رفوف المكتبة فوق نسيان الأنا، أيقظني مني ازدحام الكذبة"i ينتجُ عن اجتماع تلك الأساسات الثلاثة (الصورة الشعرية، الصورة المشهدية، الزمن) معا نوع طريف من المفارقات، هو مفارقة الموقف، والتي تنبني على نهاية غير متوقّعة لا توحي بها بدايات الكلام. والأصل في هذه المفارقة هو عنصر السرد ذاته، وهي غالبا ما تعبِّر عن نهاية مفاجئة أو موقف غير متوقع يحدث لواحد من الناس، لكنها في المقطع أعلاه، وبسبب من كثافة اللغة الشعرية ورمزيّتها، أصبح صاحب المفارقة وضحيتها في الآن نفسه عبارة عن قيمة إنسانية أكثر من أن يكون مجرّد شخص واقعي. فالشاعر يعرض للحيرة والارتياب اللذين ينتجان عن المكابدة والتجارب التي يعيشها وهو يحاول، بشعره، أنْ "يتيح لنا العلاقة الأكثر جمالا وغنى وإنسانية مع الآخر." لكنّه يفجع بانهيار نواياه على رأس أناه، وانخداعه بالغير من "الكذبة عند باب الحبر" يتاجرون بالقيم والمواقف، ويتقاسمون الريع، ويهتكون "ميزانية منزوعة من لحم طلاّب الغد المنذور للرؤيا". وهنا تقترن مفارقة الموقف بالحزن وتعبّر عن واقع مأساوي يتقاسمه الكذبة ويتاجر باسم أبنائه وبمستقبلهم انتهازيون، وأفّاكون لا يؤمنون إلا بمادياتهم المتوحشة. يقول الشاعرُ: «وضجُّوا... فجأةً... كلٌّ يريد الآن أنْ يقتصّ من آخَرَهِ، أنْ يخلع السروالَ للآخر فيه، اكتمل الدّغلُ فمن يصطاد منْ؟" ينتهي المشهد الأول من قصيدة "دغل" بمفارقة ساخرة جدا متعلقة دائما بمفارقة الموقف، ولكنها في الآن نفسه تعبر عن وضع متأزّم. وهي إذ تبرع في توظيف معنى شعبي جزائري خالص (يخلع السروال)، وهذا ما تقتضيه قصيدة التفاصيل والسردية في الديوان؛ تتجاوز ذلك فتحوله إلى معنى شعري بديع، فلقد استطاع الشاعر أنْ يجعلنا "أمام سياق رمزيّ، نواجه عملا فنيًّا له منطقه الخاص المغاير لمنطق الواقع من ناحية، والمختلف عن السياق التقريري المباشر للغة الحياة اليومية من ناحية ثانية." فالشاعر هنا ينطلق من اليوميّ والمعروف، ولكنّه يرتفع به إلى آفاق الشعرية الراقية، وقد تأتَّى له ذلك بفضل قدرته على ترحيل الأشياء اليومية إلى عالم الشعر، فيصبح "خلع السروال" رمزا للصراع الحاد على الكرامة، ولكن ليس بين الأشخاص واقعيا، وإنما في بواطن كل فرد يحاول أنْ يذل الآخر فيه، الآخر في نفسه وفي حياته. وهنا يحق للشاعر أن يتساءل بغضبٍ: "من يصطاد من؟" داخل هذا "الدغل/الوطن" الكبير الذي تخلّق مواطنوه بأخلاق الوحوش، وافتقدوا قيم الإنسان والكرامة. للموضوع هوامش الأخضر، بركة. محاريث الكناية. ص:19.